كيف نحرق المدينة دون أن نحترق؟
كيف نحرق من فجّرنا دون أن نحترق؟
كيف نحرق مراكز القوة الظالمة دون أن نحترق؟

فتح تفجير ٤ آب ثغرة في الزمكان وعلّق قوة النظام الحاكم ورجالاته لفترة كانت تبدو في حينها انها غير محدّدة، غير انها كانت محدّدة جداً وقياسها الوقتي يتطابق مع قياس جملة واحدة: تركوهن يفشّوا خلقهن كم يوم، بس كملوا المسيّل والرصاص الحي والمطاطي وبلطجة الأحزاب…

كيف نحرق بأصابعنا دون أن نحرق أيدينا؟
كيف نحرق مبانٍ حكوميّة دون أن نحرق الحق العام؟
كيف نحرق مجلس النواب المتربّص بوسط بيروت دون أن ندع النيران تمتد فتلتهم على طريقها وطريقتها أشجار حرش بيروت؟
لماذا نحرق مبنى جمعيّة المصارف من دون أن نحرق أصحاب المصارف؟
لماذا نحرق وزارة البيئة بدل أن نحرق ٧ رجال يعرف الجميع انهم ركائز النظام اللبناني الذي فجّر بيروت بمن فيها؟

احرقنا جزءًا من بيروت في ٨ آب واحترقنا معه. احترقنا وأصبحنا الرماد الذي يكنسّه اصحاب الهمم والنقود الكافية لشراء المكانس. احترقنا واصبحنا الزينة الذي يزيّن بها رأس المال أعماله الخيريّة الخبيثة الهادفة للتحكّم والمشاركة في الحكم. وماذا عن التعاضد الحيّ؟ ترمّدنا وتفجّرنا وما زال لهيب الغضب والرثاء يتسرمد فينا.

بعد ٤ آب، خسرنا القدرة على الاندهاش. خسرنا امتياز الدهشة. خسرنا دكتور داهش الى الأبد. غير أننا في ٨ آب، عدنا الى الدهشة من باب المفاجأة. تفاجأنا أن اجهزة النظام العسكرية والأمنية غير متفجّرة وباقية في حراستها لمراكز النظام في مقر مجلس النواب بشكلٍ خاص. ذلك المقر الذي استدرجنا اليه النظام لاحقاً من باب الانتخابات النيابيّة وعبر حركتنا فيه الى وقتٍ طويلٍ لا يمكن أن يبدو لنا اليوم الّا بوصفه آبادا.

حين استدعت ثقافة الاعاشة، لا التعاضد، من قبل مجموعات ١٧ تشرين على أمل كسب الأصوات، كسبت أطناناً من العواطف وخسرت السياسة.

كيف نكتب عن ٨ آب؟

نلتقط السمارتفون، نفتح تطبيق نوتس، ونشرع بتقصّي الذاكرة الحيّة في أجسادنا وبيوتنا وشوارعنا وقهواتنا وملاهينا ومسارحنا ودوائرنا الحكوميّة ومحطّات الوقود وفروع المصارف الخاصة بهم… نتقصى ولا نجد أثر بل نجد احتلالاً تام تمارسه الفاجعة على حياتنا المستكملة بفعل القدر.

كيف نكتب عن ٨ آب؟

أوراق تتساقط من شبابيك المكاتب في مبنى العزاريّة حيث وزارة البيئة ووزارة الاقتصاد؛
أوراق بلا مضمون وبلا مفعول وبلا فعل غير فعل التلويث الحاصل من جراء قطع آلاف الأشجار ثم حرقها.
رولو ورق تواليت تتدحرج في أروقة مبنى الادارة المركزيّة السابقة لجمعيّة المصارف عند تقاطع الجميزة… تحترق الرولو ويحترق معها المبنى… بتلك البساطة… النار حليفتنا في هذه الليلة… هي نار خفيفة بخفة رولو الهراء ولكنها في النهاية قادرة على اشغال ما يمكنه أن يحرق من غضبنا وحزننا وحقدنا وفعلنا الجماعي ويحوّله الى نار لا تباد…

 

^{جمعية المصارف تشتعل في ١٤ كانون الثاني ٢٠٢٠}

كيف نكتب عن ٨ آب؟

رصاص مطاطي وحي وخردق وغاز مسيّل للدموع من ناحية حرس مجلس النواب. المجلس نفسه الذي استدرجنا الى تمثيلياته الهابطة وحاول ان يحوّل فعلنا الانتفاضي في ٢٠١٩ الى فعل كنسٍ واغاثة في ٢٠٢٠ و٢٠٢١ ثم الى فعل تنافس على مجاورة نبيه بري في ٢٠٢٢.

كيف نكتب عن ٨ آب؟

سقطنا في امتحان الانتقام وفي امتحان العدالة وفي امتحان السحل وفي امتحان التنظيم وفي امتحان النقد وفي امتحان التأميم وفي امتحان الاصلاح وفي كل الامتحانات… النظام الاحتلالي الحزبلّاوي هو واضع الأسئلة فلا عجب أن نسقط جميعنا وأن يسقط بعد سقوطنا لقمان سليم شهيد التمكّن بوجه التمسكن؛ تمسكن حركة ثورية كاملة وتبنّيها المضمر لشعار “قوة ثورتنا بضعفها“.

نكتب عن ٨ آب فنستذكر النار كقوةً أساسية بوجه الموجة الصدميّة التي خلقها التفجير. قد احتمينا بنارٍ ضئيلة. احتمينا ببدائيتها وبدائيتنا… حاربنا بها لبضع ساعات أو أيام ثم احترقنا بها ومعها وشاهدناها وأنفسنا نفنى دون أن نتحوّل جماعياً الى شكل جديد من المادة الواعية لتاريخها ومخزونها وقدراتها واحتمالاتها.

بعد النار، استكملت موجة الضغط الناتجة عن تفجير المرفأ فعلها وأنهت مسار نثر الشظايا الذي كان مجمّداً بفعل الهمة والنخوة والفزعة الرد فعلية. تشظّينا وانتشرنا في الداخل والى الخارج… بعضنا احتمى بشقف أرض صغيرة أو منازل موروثة، بعضنا برأسمال اجتماعي يضمن الاستمرارة المالية، بعضنا بالهجرة، بعضنا ببيع القهوة في الطريق، بعضنا بالمبادرات التعاونية أو التكافلية أو التضامنية، بعضنا بمعاشات بالفريش دولار وبعضنا قضى أو مضى أو هام دون إي حماية أو أي شكل من أشكالها الموهومة.

تشظّينا وكانت مجموعاتنا السياسية التغيريّة تتوهّم التفاوض على استلام السلطة الاجرائية من سلطة الاحتلال التي توضّحت سماتها الاحتلالية بشكل جلي وغير رمزي مع تفجير النظام الحاكم لعاصمته في ٤ آب ٢٠٢٠ أو ٢٠٤٠ أو ٢٠٦٠ أو ما شابه. انه احتلال محتال يقاوم احتلالاً آخر أكثر تمرّساً ويغذّي الاحتلال بالاحتلال ويستلهم كل طرقه وطرائقه المثبتة الفعالية.

كيف يمكننا ألا نرى أوجه الشبه بين الاحتلالين؟ اشكال المشاريع السكنيّة تكاد تتطابق في بعض الأحيان مع أشكال المشاريع الاستيطانية. اشكال التنظيم العسكري تكاد تتطابق ايضاً… اشكال المقاتلين المدججين المعروضين للتصوير بهدف الرعب والتهويل تكاد تكون ذاتها. تختلف احياناً وتيرة القتل وأشكاله. هذا صحيح. لكن أشكال التطرف الديني واللجوء الدائم للأسطورة تكاد تكون نفسها. اشكال الحروب النفسيّة الممارسة والاغتيالات وانكار حق الآخر بالوجود تكاد تتطابق. هناك اختلافات سياقيّة عديدة غير أن التشبيه هذا أصبح أكثر شرعية بعد ٤ آب، لا بل أصبح التشبيه الوحيد المتاح للمخيّلة الجماعية… حتى مناصري ومجاهدي الاحتلال الحزبالاوي باتوا أكثر انفتاحاً في قبول هذه السرديّة واعتبارها محط فخر وتباهي.

طيب… ما في يخلص هالنص بهيك فكرة…

كيف فينا نكتب عن ٨ آب؟

شو نوع المعرفة يلّي نحن بحاجة لإلا حتى نقدر نخلق نار بتحرق مطرح ما لازم تحرق وبتترك الباقي ينمى ويعيش ويتحوّل ويتبدّل ويكمّل؟

بتقول الأسطورة المنسيّة إنو بجبال لبنان وعلى تلاله وسهوله وسواحله، بتطلع نبتة خارقة اسمها «الطيّون الأحمر». بتقول الأسطورة المنسيّة إنو الطيّون الأخضر بيتحول وبصير أحمر بعد ما توقف محموعة من ٨٠ ألف إنسانة وإنسان بوجه مجموعة من ٨ لـ ٨٠٠٠ إنسان وبتنادي الطيّون الأخضر:

أخضر يا طيّون       راحة للعيون
 لمّا تصير أحمر        بترتاح الجفون

ما في كمالة للأسطورة وما في خيال أوسع من هيك.

تجمّد جسدي عن النضال بعد ٨ آب. قررت العودة الى ما قبل ٢٠١١؛
الى زمن العمل والتفكير في الحيّز الضيّق والأضيق
الى زمن تنظيم السلاحف
الى زمن بيض السلاحف الذي يتوزّع بؤراً عديدة على الشواطئ ثم تنجو منه قلة قليلة جداً
فتهيم.

⚘⚘⚘