'Cartogrophy of Darkness' is a transclusive, collective research platform dedicated to exploring universalisms and the unity of knowledge in our highly obfuscated, crisis-ridden age. The platform is comprised of a triad of spaces: a map, a repository and a periodical.

«خريطة الظّلام» هي منصّة بحثيّة تشاركيّة تستقصي مفاهيم العالميّة والاتحاد المعرفي من منطلق الزمكانيّة الآنية، المتأزمة والمبهمة. تتكون المنصّة من ثلاثيّة حيزيّة تضمُّ خريطة وحاوية وسلسلة.

✧ نحو خراطَةُ الظلام ✦

Published

4 August 2023

Contributors

Jessika Khazrik
جيسِّكا خزريك

is an artist, composer, technologist, writer and educatress. Khazrik works with a trans-millennial production of knowledge based on an environmental understanding of the techno-politics of voice, media, and code. While probing the unity of science and the multi-dimensionality of experience in an age that institutes separation, her practice revolves around the collective search and need […]

Map Layers

Energicide

تعود المدينة إلى الطبيعة، إلى طبيعتها . تتهاوى المنشآت وينمو العشب بين الركام. تتبرعم النباتات البرية في الحفرات التي خلّفتها القذائف. ينحرث الأسفلت ويطفو . تنبتُ أشجارٌ غريبة لا نعرف أسمائها.

فواز طرابلسي، غيرنيكا بيروتالفن والحياة بين جدارية لبيكاسو ومدينة عربية في الحرب (١٩٨٧)

 

أعتقد أن خريطة الانعتاق تُعنى برسمِ خريطةٍ للقوى فيما نرسم خريطةً لِطُرُقِ الهروب.

جوتا مومباسا، صوت من الحدود (٢٠١٨)

 

القمامة التي تتجمّع حول مساكن البشر هيكالحُطامة والخرائب التي تتكوّم أعلى التلالمدموغة بتاريخِ حياةٍ وموتٍ وعمليّةٍ متواصلة من التكوُّنِ والتَّحلُّل. تصبح القمامة دلائل دامغة على ماضٍ هو كالحاضر، تنهار فيه الأشياء وتتفكّك ويكون فيه كل شيء، حتّى القوّة والسّلطة نفسها، مبنيّاً وزائلاً في آنٍ معاً. تصبح الخرائب مواداً للجهد المستديم الذي يبذله الخيال من أجل انتزاع «واقع» محليٍّ من حالة التطور المُفجِعة والعقيمة للصناعات الاستخراجية. هذا إذن، هو تاريخٌ متباين ومتغاير.

كاثلين ستيوارت، حيّزٌ على جانب الطريق (١٩٩٦)

١. مقدمة للاطار القانوتجهيلي والاقتصادي للتعامل مع البيئة في لبنان

في إشارة مُبكِرة إلى التغيرات البيئية الناتجة عن منعطف أنثروبوسيني واضحٍ وجليٍّ في لبنان على أثر التدخّلات البشريّة في الطبيعة من خلال الأنشطة الصناعية والعسكرية، دعا المحامي والناشط البيئي عبد الله زخيا في العام ١٩٩٨ إلى تغيير في المناهج الدراسية. “إنهم ينهشون الجبال لدرجة أننا أصبحنا بحاجةٍ إلى تغيير كتب الجغرافيا“. كان زخيا أحد المشرّعين الرئيسيين الذين جاهدوا وضغطوا من أجل إقرار المرسوم رقم ٨٨٠٣ المتعلّق بتنظيم عمل المقالع والكسارات في لبنان، والذي مُنِعَ من الدخول حيز التنفيذ لمدّة تسع سنوات كاملة. وبعد صدور القانون التنظيمي في العام ٢٠٠٢، إستغرق الأمر سبع سنواتٍ أخرى لكي تقوم الحكومة اللبنانية بنشر الخرائط التفصيلية للمقالع التي كان من المفترض أن تُضَمُّ إلى المرسوم المطول من العام ٢٠٠٢. حتى يومنا هذا، لا تزال عمليّة المَسح التمهيدية التي أسندتها الحكومة إلى وكالة «دار الهندسة» والتي تحمل عنوان «دراسة وطنيّة للمقالع في لبنان»، غير مُتاحة للعامّة. وفقاً لأحد الخبراء الجيولوجيين المشاركين في العمليّة، فقد تم الانتهاء من الدراسة في العام ١٩٩٤، إلّا أن وزارة الداخلية ظلّت تتوانى في نشرها حتى كانون الثاني/يناير من العام ١٩٩٦، وقد اقتصر تداولها على حيّزٍ خاص ومنغلق. كشفت الدراسة أن ٥٥ % من المقالع التي كان يصل عددها في ذلك الوقت إلى ٧١٠ مقلع، كانت تعمل بدون ترخيص، وأن أكثر من ربعها كانت مملوكة لسياسيين لبنانيين.

في العام ١٩٨٨، وبعد احتجاج شعبي كبير ضد استخدام مقلع بلدة «شْنعير» الكسروانية لتخزين ما يقارب الستة آلاف من براميل النفط الممتلئة بالنفايات السامة التي تم إحضارها إلى لبنان من خلال صفقة سرية مع المافيا الإيطالية، ومع ازدياد الطلب على الاسمنت والملاط والبَحص لإعادة إعمار العاصمة بيروت على إثر ما سُمِّيَ بالانتهاء المزعوم الحرب الأهلية اللبنانية في العام ١٩٩٠، أصبحت المقالع تشكّلُ قلقٍ بيئي رئيسي. إستخراج الحجارة حوّل الجبال إلى مواقعٍ متفجّرة وناسِفة ومُبَنَّكة تُستَخدَم لِرَمي النفايات والقَلع والتزوير والفساد. أحياناً بطيء وأحياناً أخرى إنفجاريّ، أدّى العنف الذي راح يتراكم سرّاً وهيكليّاً عبر عمليّات طمس النفايات السامة واستخدام المقالع للمواد المتفجرة مثل نترات الأمونيوم، إلى تلوث شبكة المجاري الجوفيّة وقنوات المياه التي كان يمكن أن تكون صالحةً للشرب قبل ذلك. هذه البيئة المُخَصَّبة وإنما السامة والأحاديّة والعقيمة، هي نتاجُ الاقتصاد المادي والسياسي لذاك المُرَكَّب العسكريالحكوميالصناعي (والمبيد للبيئة) الذي قادنا إلى الأنثروبوسين.

تنزعُنا الرأسمالية الاستخراجية من مشاعاتِنا وتطرُدُنا منها. قبل أن يتم الاستيلاء عليها وانتهاكها بهدف إنتاج الاسمنت والملاط والبَحص والكِلس، كانت تلك الجبال المُنتَهَكة ملكاً لنا جميعاً، بشر وحيوانات وطبيعة. ما هي صفة تلك الممارسات الاستخراجية المغتَصِبة والمُعتَدِية التي تستنزف الجبال وتملأ الأرض والبحر والسماء والمياه الجوفيّة بالسّموم؟ وكيف تعطّل القانون وتُبكِمُ البَوح؟ كيف لنا أن نتفكّر في ممارسةٍ جماعية ومعرفية وخرائطيّة وعكسخرائطيّة يمكنها أن توثّق وتعرقل وتخرق وتعطّل تلك الممارسات المُخربة المُبيدة التي تستبيح وتُضَعضِع الأرض تحت أقدامنا وتجعلها غير صالحة للعيش؟ خلال الحرب، حوّل المحامي والناشط البيئي عبد الله زخيا تركيزه وعمله نحو النشاط البيئي. قبل ذلك، كان إسمه قد برز خلال الستينيات والسبعينيات في بلدته عمشيت بفضل عمله التطوّعي في قضية حقوق العمّال ومناصرته لقانون الزواج المدني وتفعيل المساحات العامّة. في محاضرةٍ ألقاها في العام ٢٠٠٣، يقدّم زخيا تحليلاً قاطعاً وفعّالاً حول المسؤولية السياسية الجماعية، وحول العلاقة بين الحرب والتدهور البيئي واستمرارية هذا الأخير بعد الحرب من خلال مَصرَفَة البيئة، في مواجهة  تشريعٍ لطالما ظلَّ عاجزاً عن تفعيل صلاحيته القضائيّة والقانونيّة

إن تهديم وتشويه وتلويث البيئة قد تعاظم أثناء الحرب وتفاقم مع استمرار العقليّة الحربيّة والمليشياوية المسيطرة على الأجهزة السياسية والإدارية، فانتقل لبنان من الاستنزاف العسكري إلى الاستنزاف المالي، ولم تَستَعِد الضوابط القانونية فاعليّتها، وظلَّ جميع اللبنانيين، وبتواطؤ المسؤولين، يدمّرون ويسرقون ويلوّثون هذا الوطن، كُلٌّ بحسب حجمه السياسي والمالي، وكأن لبنان أصبح غنيمة نتقاسمها، ولم يعد وطناً نبنيه. وأصبح السِّلمُ امتداداً للحربِ بنفسِ القيادات ولكن بوسائل جديدة، بدلاً من أن يكون انقلاباً عليها. البيئة هي المصرف المشترك للوطن حاضراً ومستقبلاً: فمن خالف قوانينه وتلاعب بأمواله ساهم في إفلاسه، مُرتكباً بذلك جريمةً جماعيّةً ومُتمادية.

منذ بضع سنوات، يشهد لبنان إنهياراً اقتصاديّاً غير مسبوق وأزمة نقصٍ في الكهرباء والمياه والغذاء والوقود، وإخفاقات متعددة ومتزامنة في معظم مرافقه وبُناه التحتية. كل هذا في ظلٍّ حُكمٍ استخباراتيٍّ أمنيّ، هو حكم الرُّعب الذي لم يتبجَّح يوماً بجوهره الكليپتوقراطي والسّابي كما يفعل اليوم. تُعرَّف الكليپتوقراطية عموماً بأنها حكم اللصوص الذين يعملون على إثراء أنفسهم سرّاً وعلى حساب الشَّعب وخارج سيادة القانون. نسعى في هذا المقال إلى التحري عن النظام الحاكم في لبنان باعتباره نظام حكم كليپتوقراطي مليشياوي، لطالما جدّد لنفسه في حالات الطوارئ المستديمة ليتحوّل إلى تكنوقراطية كاكيسطوكراتية، ليس على حساب الشَّعب فقط وإنما أيضاً على حساب البيئة والبُنى التحتية. بهدف الإيجاز، سنركّز في هذا المقال على المَصرَفة البيئية والاقتصادية التي تقودها الدولة اللبنانية الكليپتوقراطية الفاسدة والإجرامية، من خلال تقديم ملخص لأبحاثنا المشتركة والموحَّدة حول عمليّات «إبادة الطبيعة». بينما نشيرُ أيضاً، وبشكلٍ تماسيٍّ، إلى مخاطر وإخفاقات تلك السُّلطة الكاكيسطوتكنوقراطية. في ظلّ الظروف المتردّية التي تلوّث عيشَنا وتشوّه حياتَنا وتفسدها، يعمُّ شعورٌ بالوهن والعجز عن تغيير الأحوال. ماذا لو كان هذا العيش اليومي في ظلّ الشّح والقلّة ليس ارتدادياً أو رجعياً، بل تنبئيّاً ودالّاً على مستقبل دنيوي؟ ما الذي نحتاج إلى الإطاحة به وتهديمه وسلخه عنّا من أجل التفكّر والتخطيط على نحوٍ مغايرٍ ومختلف؟

٢. هندسة خرائط الظّلام

«خريطة الظّلام» هي منصّة بحثية تشاركية تستقصي مفاهيم العالميّة والاتحاد المعرفي من منطلق الزمكانية المتأزّمة الآنية والمبهمة. تسعى المنصّة إلى تفحّص الأصول والتسلسلات المبهمة والملتبسة لتواريخ لبنان البيئية والتكنوسياسية المتعلّقة بسياسات السلب والجرائم البيئيّة وآليات التَّجهيل. تتكون منصة رسم الخرائط المعرفية الجماعية هذه من ثلاثيّة حيزيّة تضمُّ خريطة ومستودع ومنشورٍ دوريّ. تتكون الخريطة التراكمية المُصَوتَنَة من عدة طبقات من المركّبات التفاعليّة والبيانات المكانية. للمرة الأولى، سوف يتيح المستودع العام للوسائط الإطلاع على مجموعةٍ من المواد المتوفّرة رقميّاً، والتي تضمُّ أرشيفات شخصيّة وضعها علماء وفنانون وممارسون قانونيون وصحفيون استقصائيون. هذا بالإضافة إلى المواد المترابطة والمنسوخة المتوفّرة على الإنترنت. أما المنشور الدوري فهو يضمُّ أبحاثاً مكتوبة وأخرى متعددة الوسائط، تقوم «آليات المجتمع» والمساهمون المدعوون بنشرها بشكلٍ منتظم  كجزءٍ من فصلٍ بحثيٍّ يتناول في كل مرّة قضيّةً محدّدة. من شأن هذه الفصول البحثية أن تضيف طبقات مستحدثة إلى الخريطة وموادٍ جديدة إلى مستودع البيانات والأبحاث.

يسعى كل فصل دوري/بحثي إلى الكشف عن الأنظمة المتوارية التي تسبّب التلوث وتتصدّر أنماط الإنتاج المهيمنة في لبنان، كما إلى تعزيز طرق جديدة لتدارس قضايا البيئة جماعياً وإلى تحليلها وإيجاد استراتيجيات تؤول إلى العناية بها. تتمحور هذه المساهمات حول أفعال التّضامن العابرة لأزمة الكهرباء وللاصطفائيات والمناطق، والتي تسعى إلى بلورة أشكال ونماذج اجتماعية قائمة على العدالة والمساعدة المتبادلة وإتاحة الحيّز العام، كممارسةٍ تتصدّى اللصوص وتواجههم. كما تهدف أيضاً إلى خلق أوساط رعايةٍ وعناية في مواجهة الاقتصاد المحلي والعالمي القائم على الإنكار وعلىى الرّمي والتكديس المُسِمّ والضّار. من خلال هذا كلّه، تسعى «خريطة الظّلام»، وبشكلٍ جماعيٍّ وتكاتفيّ، إلى إيجاد سُبُلٍ تفضح وتُعرّي وتُميط اللثام عن تلك الأنظمة المتوارية الموغِلة في ممارسات النَّهب والتَّخريب، وعن وسائط وثقافات الفساد المتفشية التي تسلب سُكّان لبنان هناء عيشهم وتؤثّر سلباً وبعمقٍ على الروابط الكامنة بين الإنتاج المعرفي والإنتاج المكاني والخطاب السياسي.

تترابط هذه المساحات الثلاث وتتتابع فيما بينها ضمن نَهجٍ تَضمينيٍّ يشمل في ما بينها ويصبُّ في مساحةٍ واحدة هي أشبه بمنتدى عام مفتوح المصدر. إبتكر مفهوم «التَّضمين» وصاغه الفيلسوف وعالم الاجتماع ومهندس الكمبيوتر ثيودور نيلسون في ستينيات القرن الماضي. يرمي مفهوم «التَّضمين» إلى أن تكون جميع البيانات والمعلومات المجمَّعة من مصادرٍ مختلفةمعروفة ومُتاحة في أكثر من مكانٍ واحد‘. في هذا السياق، يستحدثُ نيلسون أيضاً مصطلحات «هيپرميديا»، «هيپرتكست» (أي النَّص التَّشعُّبي)، و«التَّخزين الكزانالوجي» والـ «التداخل العلاقاتي». قد يسعنا القول أن هذه المصطلحات أو المفاهيم لا تستند في جوهرها إلى الظهور الرقمي للوسائط الحسابية والتجميعيّة، بل إلى النظريات عبرالألفية المتعلّقة بمفهوم الانبثاق الكامن في جوهر عمليّة تداول الأفكار والوسائط. يتمثل أحد الأهداف الرئيسية لمنصة «خريطة الظّلام» في نَبش النفايات السامة المدفونة في المحاجر منذ ثلاثة عقود، والضّغط من أجل تشكيل لجنة تحقيق دولية مستقلة تقودها كوادرٌ محليّة من أجل المشاركة في التحقيق في تفجير مرفأ بيروت، والعمل على تفعيل سياسة التعويض والإصلاح وتحقيق الزّلسَمة (أي إزالة السّميّة) في لبنان والعالم.

٣.  ملاحظات إضافية حول الخلفية التاريخية

منذ بداية بحثنا، قدّرنا واستنتجنا أنه لا يمكننا التّمعُّن في البنى التحتية التكنوسياسية للبنان دون الخوض في التاريخ والاقتصاد السياسي المرتبط بتحديث الدولة، بالعلاقة مع العديد من إخفاقاتها ونُظُمِها التكنوقراطية. في ضوء ثلاثيّة مواضيعنا، وجدنا أنه من الأكثر إنتاجية ودقة اعتبار أن تاريخ لبنان التكنوقراطي يسبق تشكيله كدولة قومية، كما ويسبق إدخال الكهرباء إلى لبنان في العام ١٩٠٦ مع تأسيس «شركة الترامواي والتنوير العثمانية في بيروت». خلصنا إلى أن بداية هذه الفترة من العلاقات التحتية الممتدّة والطفيليّة والاتكالية قد تكشف عن الكثير إذا ما تتبّعنا أثرها الذي يرجعُ إلى الحقبة الدستورية الأولة، وتحديداً إلى العام ١٨٧٧ عندما قرّرت الإمبراطورية العثمانية تحديث مرفأ بيروت. بسبب الإفلاس الذي حلّ بهم، إنتهى الأمر بالعثمانيين بتلزيم المشروع إلى شركة «م. م. إستييه وأخوانه» التي يرأسها البلوتوقراطي الاستبدادي السيئ السمعة إدموند دو بيرتويس. إنتهى مشروع التوسيع الضخم لمرفأ بيروت في العام ١٨٩٣، ولَقِيَ استحساناً كبيراً من قبل عمال المرفأ والمجلس البلدي لمدينة بيروت. إلّا أن دو بيرتويس أنشأ حينها نظاماً جمركياً جديداً مُخَصخصاً، وقام بتدمير أرصف السُّفُن الصغيرة المخصّصة  للقوارب المحليّة والإقليمية. وفي إطار هذا التوسع الاستعماري، أقدَمَ دو بيرتويس أيضاً على طرد جميع عُمّال المرفأ المحليين الذين كانوا قد نفّذوا إضراباً قبل إنهاء عقودهم واستمروا في تنظيم الاحتجاجات في مرفأ بيروت لمدة عامين كاملين.

أدركنا، وتحديداً من خلال الإطلاع على عمل المؤرخ زياد أبو الريش، أن تاريخ الكهرباء في لبنان لطالما كان حافلاً بالمظالم التي سبقت الحرب الأهلية والتي شملت العديد من القضايا التي لا تتعلق فقط بانقطاع التيار الكهربائي. في بحثنا، وجدنا العديد من الترابطات بين المشاكل المتعلقة بالبنية التحتية الكهربائية وبالمركزية الحَضَريّة والتدهور البيئي وبإضفاء طابع الاعتياديّة والعموميّة على الأزمة في لبنان، كما بأهداف العمليات الحربية طوال القرنين العشرين والحادي والعشرين. قرّرنا التشديد على تلك الترابطات بشكلٍ واضحٍ وصريح من خلال إلقاء الضوء على قضية سلب الكهرباء كموضوع يتقاطع مع باقي المواضيع. خلال العقود الثلاثة الماضية، وبينما كان العالم منشغلاً في التشاورات والتجارب حول مصادر الطاقة المتجددة التي تشغّل البنية التحتية الكهربائية بمزيد من العناية  والمراعاة، كان لبنان ولا يزال رهين المسعى الموعود بتأمين الكهرباء المتواصلة. من المعروف أن الكهرباء والبنى التحتية هي، بشكل عام، أهداف رئيسيّة للحرب. إلّا أنه، وبعد ثلاثين عاماً من النهاية المزعومة للحرب (أو الحروب) الأهلية، ظلّ النقص اليومي في الطاقة يُعتَبَر أمراً مُعتاداً وطبيعياً في لبنان. ما هو جوهر سياسة الكهرباء الحِرمانيّة هذه التي لا تمتّ بصلةٍ إلى الخصائص المادّة والتقنية للنظام الكهربائي؟ أيُّ نوعٍ من الجماليات وتجارب الحياة والموت، وربما الموت البطيء، تولّدها سياسات الحرمان التكنوسياسّة هذه؟ وكيف تؤثر على تجربتنا في الفضاء والإعلام والطاقة والمعرفة، وما هي الأدوار التي نلعبها في تلك المضامير؟

٤. المنهجية والحيثيّات البحثيّة

يتبنّى مشروع «خريطة الظلام» منهجيّة شاملة تتّسمُ باللاإنضباط وبعدم الخضوع لنظامٍ محدّد ومؤطَّر. أي أننا بدلاً من الزَّعم بأننا نتجاوز تنسيقات الأنظمة المُعتَمَدة في المقاربات العَبرمنهجيّة، وبدلاً من الافتراض بأننا نعمل ضمن فضاءٍ بَينيٍّ مُتَخَيَّل يعمل ويتشكّل بين ثنايا فروع معيّنة من المعرفة، أي على النّحو الذي تقترحه عموماً المقاربة العَبرمنهجيّة، نسعى إلى التحقق، وبشكلٍ  نقدي وجماعي، في كيفية ترتيب وترويض وتعيين حدود بيئات التعلُّم في مختلف الأُطُر النظاميّة للسلطة والتعميم والترويج. في مقاله المعنون «التفكير بين التخصصات: جماليّةٌ للمعرفة»، يستذكر جاك رانسيير أهمية «القصّة» أو «السرديّة» في التاريخ وفي الأنظمة الدراسية والانضباطية، ويقترح جدلية مفادها أن تجربة الفن هي التي تسمح لنا بمواجهة الجهل الذي تثبّته «القصّة» كشكلٍ من أشكال المعرفة والعقيدة والإلزام.

تلفتُ انتباهنا نزعةٌ نودُّ تدارسها من أجل التأكيد على تحليل عبدالله زخيا فيما يتعلّق بتصنيع الجهل وعلاقته بالسياسات المُعَسكَرة للفضاءات. في إحدى مقالاته وفي مقابلة بينه وبين ماري أود بارونيان تحت عنوان «جاك رانسيير واللاإنضباطيّة»، يستخدم رانسيير لغة ميدان القتال في حديثه عن التخصصات. «آلة الحرب»، «الحرب العلمية ضد الأخرويّة»، «الحديث عن الحرب»، «الانشقاق»، «الانخراط في حربٍ ضد الحرب»، «النَّزيف»، «يجب على الفكر الانضباطي أن يطارد الحرب بلا كللٍ، لكن على هذه المطاردة أن تجري ضمن عمليّة  سلميّة»، «سياق الحرب»، «دويُّ المعارك البعيد»، «أسلحة في النزاعات»، «حرب الأشكال» و «التحذير المسبق». يقول:

إن الحديث عن الحرب لا يعني استبعاد الانضباطات المَعنِيّة. يجب أن نتذكر أن النُّظُم والانضباطات تتعدّى دائماً تجميع العمليّات والاجراءات التي تسمح بالتفكُّر ضمن نطاقٍ محدّدٍ من الأشياء. الأمر يُعنى أولاً بصياغة وتشكيل هذا النطاق نفسه، وبالتالي بتكوين توزيعٍ معيّن لما يقع ضمن حيّز التفكير. هكذا، فهو يفترض قطيعةً في النسيج المشترك لتمظهر الفكرة واللغة. […] ولذلك عليهم أن يخوضوا حرباً ضد الإدعاء بأن هناك معرفة أخرى و«جهل» آخر غير ذلك الذي يقع ضمن شروطهم وأوضاعهم. بعبارة أخرى، عليهم أن يخوضوا  تلك الحرب التي يخوضها العامل نفسه“.

ماذا لو كانت شاعرية تلك المعرفة اللامنضبطة التي تبحث في الإجراءات والسرديّات والأغراض المشتركة المستخدمة في كافّة المجالات، تحمل في طيّاتها نظام مساواة يسعى، من خلال كسر الحُدوديّة، إلى التصدي للحرب المكانيّةالمعرفيّة المُشَنَّة ضد الحروب. من يعرف أين؟ إذا كان التنظيم الطوبولوجي للعالم يُترجم دائماً على أنه تنظيمٌ للمعرفة، ماذا لو شرعنا في التصدّي للتنظيم المكاني للعالم من خلال إعادة النّظر في ترتيب المعرفة نفسها؟ من أجل إنتاج اقتصاد سياسي لامُنضبِط، وضعنا في متناول العامّة الهيكل العام ورمز المنصة الإلكترونيّة، بالإضافة إلى أدوات القياس التصويري التي تمّ تطويرها خصيصاً لهذا مشروع ، أي أنها مُتاحة للقراءة ولإعادة الاستخدام من خلال «رخصة جنو العموميّة V3»  المفتوحة المصدر.

تدور جميع أسئلتنا البحثية حول استكشاف بنى تحتية تحويليّة تصبو إلى الانعتاق عن حُكوميّة مصمّمة لكي تنزع الملكيّات وتُجرّدَ وتلوّث وتُبيد وتَطمُس، إن كان ذلك بشكلٍ ماديّ أو معنويّ. وبينما كنّا في بداية بحثنا حذرين من طرح مقاربات شبيهة بنهج «إفعلها بنفسك» (DIY) الذي من شأنه أن يخفّف من وطأة الحرمان الكهربائي بينما يعيد تكرار الأنماط المهيمنة والتسلطيّة لخصخصة الكهرباء، أدركنا في شهر تشرين الثاني من العام ٢٠٢٢ أن الأمر سيكون مغايراً في حال طبّقنا نهج «لِنَفعلها معاً» (DIT) بطريقةٍ تشاركيّةٍ مركزيّة تستند إلى قاعدةٍ استراتيجيّة (وليس تكتيكيّة أو وَسيليّة) من التّضامن العابر لأزمة الكهرباء، كما إلى  أعمال الرَّفض الجماعية المطلوبة منّا، نحن سُكّان كوكب الأرض، من أجل تحقيق مواجهة تحويليّة قادرة على تحدّي مكائد وحِيَل أزمة الطاقة العالمية. وفي حين أن الأزمات الحالية في لبنان غالباً ما تُعرض في سياق الخطاب العام على أنها انتكاسٌ ورجوعٌ إلى القرون الماضية، فقد أدركنا أنه من الأجدر والأكثر نفعاً اعتبار هذه الأزمات تمظهراً للتطورات الحالية وللمستقبل المحتمل للرأسمالية الاستخراجية الحديثة التي تتطوّر وتتغذّى ضمن مستقبلٍ أرضيٍّ تقوده سلسلةٌ لامُتناهية من الأزمات.

في المراحل الأولى من تصوّر المشروع، لم نعط الأولوية للمسألة الذاكريّة إلا من خلال المواد التوثيقيّة والأرشيفيّة، أما اليوم، تقودنا جميع نتائجنا البحثيّة إلى نظريات جديدة حول الذاكرة الجماعية وحول قصور الخطاب والنشاط السياسي المتعلّق بالمعالجة والمداواة. أما بالنسبة للإنتاج الثقافي، فنحن نركز من خلال دراسة وتحليل أعمال المنتجين الثقافيين في السنوات الأخيرة على عددٍ من التساؤلات، منها: أيُّ نوعٍ من الجماليات وتجارب الحياة والموت، وربما الموت البطيء، تولّدها سياسات الحرمان التكنوسياسّة هذه؟ وكيف تؤثر على تجربتنا في الفضاء والإعلام والطاقة والمعرفة، وما هي الأدوار التي نلعبها في تلك المضامير؟ ما هو الدور الذي يلعبه التوهين أو الإضعاف الجماعي في سياق الأزمات الدائمة التفاقم، وهل لنا أن نجد مخرجاً منها؟

٥. تفصيل الطّابع التكنوسياسي لخريطة الظّلام، وطبقة الكهرباء

تتكون الواجهة الأمامية لمنصّة «خريطة الظلام» من مستودعٍ وخريطةٍ ثلاثية الأبعاد للبنان. تتضمن الخريطة عدة طبقات يمكن للمستخدمين النّقر عليها للإطلاع على البيانات المتّصلة بها. كما يمكنهم أيضاً التنقّل بين مختلف الطبقات والمحاور (وحتى تلك القابعة تحت الأرض) أثناء تجوالهم في أرجاء الخريطة. في الجهة الخلفية، نستخدم كمصدرٍ رئيسي للمنصّة نموذجاً ثلاثي الأبعاد لكامل مدينة بيروت، طوّره وأطلقه المهندس المعماري اللبناني سليم القاضي، بالإضافة الى بيانات جغرافية متاحة من خلال الأقمار الصناعية. ثم نقوم بنقل المعلومات حول كل مبنى من هذا النموذج إلى «خريطة الشارع المفتوحة» (OSM). يقوم عددٌ من  المستخدمين بالتحقق من جميع التعديلات والبيانات الجغرافية الموجودة على «خريطة الشارع المفتوحة». يشتمل المستودع الموجود على الطرف الآخر من الشاشة على مخزنٍ يحتوي على نصوص ومواد صوتيّة ومرئيّة مرتبطة بالموقع المَعنيّ. تسمح المنصّة للمستخدمين بأن يتعقّبوا، وبطريقةٍ سهلة، الطبقات التي تم دمجها في الخريطة من أجل الإطلاع على البيانات التي تهمّهم. بالإضافة إلى ذلك، توفّر منصّة «خريطة الظّلام» محرّك بحث يستوعب جميع أنواع التنسيقات والوسائط، إذ يمكن للمستخدمين البحث عن مجال اهتمام معيّن وتلقي النتائج على شكل صورٍ مربوطةٍ بمصطلحات مفتاحيّة أو دراسات بحثيّة أكاديمية أو مواقع جغرافية وبيانات خرائطيّة أو وسائط مدنية صوتية/مرئية تتمّ مراجعتها، على قدر الإمكان، من قبل خوارزميّات النُظُمِ الاستعرافيّة.

يكافح لبنان منذ سنوات لإنتاج الكهرباء وإمداد السكان بها، ولكن اليوم، وصل الإمداد الكهربائي إلى أدنى مستوى له على الإطلاق. مُردُّ ذلك يعود أولاً إلى الفساد وسوء الإدارة التي يعاني منها قطاع الكهرباء حالياً في البلاد. يُطلقُ اللبنانيون على التيار الكهربائي الذي تؤمّنه الشّبكة إسم «كهربة الدولة»، بالعاميّة اللبنانيّة. ويتم توفير هذا التيار بمعدل أربع ساعات في اليوم في العاصمة بيروت، بينما قد تتلقّى مناطق أخرى من لبنان نفس عدد الساعات أو ربما أقل. للتعويض عن هذا الانقطاع في التغذية، يتزايد شيئاً فشيئاً تركيب المولدات الخاصة في أكثريّة المباني والأحياء السكنية. يُعرَفُ هذا التيار الكهربائي بين اللبنانيين بإسم «كهربة الموتور». تشكّلُ محرّكات الديزل هذه خطراً عاماً هائلاً من حيث قابليّة الاشتعال والسُّمِّيَة، إذ يتمُّ وضعها تحت أو فوق أو داخل المنازل والمتاجر والشوارع ومواقف السيارات. عند تشغيلها، يدوّي هدير محرّكاتها في المدينة كلّها ويجتاح ضجيجها مَسمَع السكان. تتشابك أسلاك هذه المولّدات مع خطوط شركة كهرباء لبنان في شبكةٍ فرعيةٍ تتشعّبُ وتتوسّع لتعويض نقص كهرباء الدولة. يمارسُ هذا النشاط الكهربائي ويديره ويوسّعه أشخاص معظمهم لم يتلقّى أي تدريب رسمي أو معترف به في هذا المجال. «شهيدُ الكهرباء» هو شخصٌ لَقِيَ حتفَهُ وسط تلك البنية التحتية العشوائيّة والجزافيّة. سواءً جرّاء صدمة كهربائية مباشرة أو انفجار مولد كهربائي أو حريق أو حتى الانزلاق أثناء استخدام الدرج بدلاً من المصعد، كل هذه هي حالات يُعتَبَرُ فيها القتيل في لبنان «شهيدُ كهرباء». في ١٧ أيلول العام ٢٠٢١، إنفجر موّلدٌ كهربائي في عيادة طبيب أسنان مما أدّى إلى إصابة سبعة أشخاص بجروح. كانت العيادة تقع في الطابق الثاني من مبنى سكني مكون من خمسة طوابق. بعد مضيّ أسبوعين على وقوع الحادثة، توفي طبيب الأسنان متأثراً بجراحه. هذه جريمة في بالبنى التحتية للبلد.

تناقش دانا أبي غانم تَعَرُّض سُكّان مخيمات اللاجئين الفلسطينيين في لبنان للعنف المؤسّسي بسبب البُنى التحتيّة الخَطِرة وغير الملائمة. تتلقّى المخيّمات كهرباء الدولة من مصدرٍ كهربائيٍ واحد فقط، أما توزيعها على البيوت فهو أمرٌ منوطٌ بالمسؤولين عن تنظيم المخيّم، وهي مهمّة عادةً ما يؤدّيها أشخاص ليسوا من ذوي الخبرة أو المؤهلين للتعامل مع المخاطر الكهربائية. تقول أبي غانم إن من يلقى حتفَهُ جرّاء حادثة كهربائيّة في المخيّم، يُطلَقُ عليه إسم «شهيد كهرباء». في السنوات الأخيرة، لم يعد غياب الدولة ظاهرة تقتصرُ على مخيمات اللاجئين، بل انتشرت لتشمل كامل أرجاء الدولة اللبنانيّة. وراحت الثرثرات الشعبية التي تغذّيها أحياناً تصريحات بعض الشخصيات السياسية، تُفَسِّرُ غياب الأنوار على أنه غياب للدولة ولدورها. بالتالي، يمكن النّظر إلى انقطاع التيار الكهربائي على مستوى البلاد على أنه مظهر آخر من مظاهر انهيار الدولة اللبنانية وتقهقرها وانسحابها من أراضيها. وكان لا بد من تعويض التّعتيم من خلال إنشاء بنية تحتية موازية تقوم بتزويد الكهرباء عبر مولّدات الديزل. غير أنه، وبدلاً من إنشاء مصانع كهربائية كبرى في مناطقٍ نائية وبعيدة عن العاصمة، يتكثّفُ وجود المولدات الخاصة في المناطق المزدحمة والمكتظّة أصلاً بالسكان. إن وجود تلك الآلة الوحشية والشّنيعة التي تنفثُ الدخان الأسود في الهواء وتصمُّ آذان السكان بضجيج محرّكاتها، هو ليس إلّا خَلِيّة واحدة ضمن شبكة معقدة من الإمداد السلبي لكهرباء الدولة. تتطلّب تلك المحرّكات خزان وقود قريب منها (عادةً ما يتمُّ عزله بشكلٍ سيئ ووضعه في مكان غير مناسب)، بالإضافة إلى شبكةٍ من الأسلاك تنتشر منه إلى جميع المدخلات التي يمدّها بالتيار الكهربائي. وتماماً كما يحدث في مخيّمات اللاجئين الفلسطينيين، يقوم بتشغيل هذه البنية التحتية الموازية أشخاص لديهم تدريب مسبق ضئيل جداً أو حتّى معدوم في التعامل مع مخاطر السلامة وتوزيع وإدارة التيار الكهربائي. في هذه الحالة أيضاً، يُشارُ إلى الأشخاص الذين يُقتلون أثناء عملية توفير أو تلقي الكهرباء على أنهم «شهداء الكهرباء». يشكّلُ هذا مثال آخر على إجرام البنى التحتية.

٦.  رؤية «الكاشف» المستقبلي

تؤدّي اللامُساواة في الحصول على الكهرباء في لبنان إلى تفاقم التفاوتات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية القائمة وإعادة إنتاجها. تتّسمُ جغرافية إمداد الدولة للكهرباء بالطبقية والطائفية وحتى الانتقائية اعتماداً على نسبة المشاركة الانتخابية في الدوائر. في قضيّة التغطية الكهربائيّة، فإن بعض المناطق تتلقى نسبةً أعلى من غيرها من التغذية، ويعود ذلك إلى عواملٍ حاسمة وعديدة منها قُرب المنطقة من مبنى حكومي أو من منازل بعض السياسيين، أو قيمة الأرض أو ما إذا كانت مخيمات للاجئين وغير ذلك من العوامل. من أجل التحقُّق في هذه العوامل وتفحّصها، نقوم حالياً في منصّة «خريطة الظّلام» بتصميم أجهزة كشف كهربائية تفكّرنا بها وصغنا فكرتها جماعياً، وأطلقنا عليها إسم «الكاشف».

والكاشف هو عبارة عن جهاز إلكتروني يحوي برمجيّة مفتوحة المصدر مصنوعة من وحدات تحكم دقيقة وصندوق هندسي مُتاحٌ للنَّسخ مُصَمَّم ليستكشف نوع الكهرباء التي تصله. من خلال وصله بثلاثة منافذ تَبُثُّ البيانات الحيّة على صفحةٍ خاصّة تشكّل إحدى طبقات الخريطة، سوف يتمتّع «الكاشف» – التي نقوم الآن بوضع نماذج أولية لهبالقدرة على التمييز بين كهرباء الدولة وكهرباء المولّدات كما الغياب السلبي لكليهما، وبتسجيل جدولٍ زمنيٍّ بساعات التغذية التي يوفّرها كلا المصدرَين. عند وصله بشبكة الإنترنت، يقوم «الكاشف» تلقائياً بإرسال البيانات المسجلة إلى صفحة تلقيمٍ حيّة تشكّلُ واحدة من طبقات «خريطة الظّلام». ونحن اليوم في طور البحث عن كيفيّة توسيع نطاق هذا المشروع جماعيّاً.

٧. الكليپتوقراطية الميليشياوية والتمصرف السام للطاقة والبيئة

غَرِقَت العاصمة اللبنانيّة في ظلامٍ دامسٍ لمدة ثلاثة أيام كاملة من الثاني وحتّى الخامس من تموز العام ٢٠٠٢. من خلال تجريف الويب والممارسة الخرائطيّةالزمنيّة للخريطة وللمستودع، تمكنّا حتى الآن من توثيق ٧٢ تظاهرة حصلت أمام محطّات كهرباء رئيسيّة وأخرى فرعيّة في جميع أنحاء لبنان خلال العام ٢٠٢٠ وحده. سبعة عشر من تلك التظاهرات حصلت في شهر تموز من العام ٢٠٢٠، وتكلّلَت في مظاهرة حاشدة أمام «وزارة الطاقة والمياه» في صباح الرابع من آب ٢٠٢٠. بدأت تلك المظاهرة الكبرى عند الساعة التاسعة صباحاً لتتلاشي وتُنسَى بعد ظهر نفس اليوم إثر تفجير مرفأ بيروت الذي حطّمَ ثُلث مدينتنا وحوّل منازلنا إلى أسلحة تقتلنا أو تخرق جلدنا. كان الانفجار هائلاً لدرجة أننا غالباً ما نتحدّث، نحن وعوائلنا وأصدقائنا ومحاورينا، عن حياتنا وزمننا «قبل» و«بعد» الانفجار. نفعل ذلك مُثقَلينَ بما ندركه ونشعر به جميعاً، وبتلميحاتٍ غالباً ما تبقى مكتومة عاجزةً عن القَول، كابحةً توقَنا إلى عدالةٍ اجتماعيّةٍ جازمة وآتية لا محالة، يَعِدُ بها واحدنا الآخر لنأمَلَ بمواصلة العَيش.

في العام ٢٠٢٠ أيضاً، فاز «المركز اللبناني لحفط الطاقة» بـ «جائزة الطاقة العالميّة» في لبنان عن مشروعه الوَخيم والضار بالبيئة والذي يحمل إسم «ثعبان نهر بيروت الشّمسي». بدلاً من معالجة النّهر وإعادة تأهيله والتعامل مع التدهور البيئي وإيجاد حلول لظاهرة «عُنُق الزجاجة السكاني» وتلوث البحر والنهر الذي أحدثه شقّ القنوات في نهر بيروت واستخدامه لاحقاً كمكبٍّ للنفايات، ظلّ «المركز اللبناني لحفط الطاقة»، ولمدّة ثلاثة عقود كاملة، يعوّلُ على التمويلات الدولية للطاقة المتجددة من خلال مشاريع تملأ التقارير وتقدّم وعوداً بالطاقة، ولكن دون الوصول إلى الناس أو تقديم أي خدمة لأهل المدينة. الأمثلة مشحونة بكيف قامت الحكومة المُرتشية والكلپتوقراطية بالشراكة مع مصارف الشراكات بين القطاعين العام والخاص، بتقديم وعود كاذبة بتأمين الطاقة التي راحت تستنفدها والتي نحتاج إليها من قطاع المساعدات المتخصّص بالطاقة المتجددة العالمية الذي لا ينفكّ ينمو منذ بداية التسعينات وحتّى اليوم، دون إحداث أي تغيير في البنية التحتية العالمية للطاقة.

تبعاً لهذه الارتكابات، وفي العام ٢٠١٩، قام المدير التنفيذي لبنك «FFA»  إياد بستاني، وبالتعاون مع باحث سياسات الطاقة في «معهد عصام فارس» في الجامعة الأميركية في بيروت مارك أيوب، بنشر تقرير سياسة عامّة يحمل عنوان «مشروع مُبَنَّك لإنشاء محطة طاقة شمسيّة شاملة في بلدة طفيل اللبنانيّة». يقترح المشروع تغطية مساحة ١٣ كيلومتر مربع من بلدة «طفيل» الحدودية بالألواح الشمسية واستخدامها لبيع الطاقة لسوريا ولبنان، ولكنه يتجاهل تماماً تاريخ وحاضر المنطقة الميليشياوي والمُعَسكَر، ليصبُّ تركيزه على معدلات الاختراق والمكاسب الاقتصادية التي سيدرّها مشروع كهذا. أيضاً في العام ٢٠١٩، بدأت تتكشّف في بلدة «طفيل» مجموعة من الصفقات الكلپتوقراطية السرية والفاسدة التي قادها مصرف لبنان المركزي وحاكمه رياض سلامة. كل شيء يبدو مترابطاً ومتداخلاً، وعندما يكون المركز فاسداً، تزداد عدوى الفساد وتتوسّع في الحيّز الاجتماعي كما البيئي. في محاضرة العام ٢٠٠٣ التي أتينا على ذكرها سابقاً في هذا المقال، يقدّمُ المحامي والناشط البيئي عبد الله زخيا تفسيراً نظرياً للعبةٍ سياسيةٍ مهيمنة في لبنان تقوم على أساس «تجهيل الفاعل»، نترجمها هنا إلى مجاز سياسي ينتج ما يمكننا تسميته «المرتكب المُغَيَّب». يقول زخيا:

لا تطال سيادة القانون أباطرة المال والدولة الذين يقرصنون البيئة ويستبيحونها. وقد ابتكرت الحكومة لعبة سياسية تحمي هؤلاء من خلال التَّعتيم عليهم وعلى ممارساتهم الآثمة. وعلى الرغم من جَسامة الجرائم البيئية وخطورتها والوعود الزائفة التي لا تُعدُّ ولا تُحصى، لا تزال الدولة «تَجهَل» من هم مجرمي البيئة، على الرغم انتشار أسمائهم على كل شفة وكل لسان. لدينا جرائم، ولكن ليس لدينا مجرمين.“

Webscore

Generator

مولد كهربائي

×