'Cartogrophy of Darkness' is a transclusive, collective research platform dedicated to exploring universalisms and the unity of knowledge in our highly obfuscated, crisis-ridden age. The platform is comprised of a triad of spaces: a map, a repository and a periodical.

«خريطة الظّلام» هي منصّة بحثيّة تشاركيّة تستقصي مفاهيم العالميّة والاتحاد المعرفي من منطلق الزمكانيّة الآنية، المتأزمة والمبهمة. تتكون المنصّة من ثلاثيّة حيزيّة تضمُّ خريطة وحاوية وسلسلة.

The Rationed Glare of Darkness

تقنين: للعتمة وهج كما الضوء ☄︎

Published

4 August 2023

Contributors

Rayyan Abdelkhalek
ريّان عبد الخالق

is a writer, translator, DJ and performer based in Mount Lebanon and born there in April 1990. He is interested in rituals, club cultures, catharsis and healing practices. He works under the pseudonym “MAWADα”, a hybrid production and DJing project that explores voice, ritual and community-based healing.

(أَوْ كَظُلُمَٰتٍۢ فِى بَحْرٍۢ لُّجِّىٍّۢ يَغْشَىٰهُ مَوْجٌۭ مِّن فَوْقِهِۦ سَحَابٌۭ ۚ ظُلُمَٰتٌۢ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَآ أَخْرَجَ يَدَهُۥ لَمْ يَكَدْ يَرَىٰهَا ۗ وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ ٱللَّهُ لَهُۥ نُورًۭا فَمَا لَهُۥ مِن نُّورٍ ﴿٤٠ النور

عتمة – skotōma   ـ dizziness

كانت ليلة شتاء قارسة البرودة، وأنا أمشي في شارع أظلمه انقطاع الكهرباء، ذاهب الى منزلي مجبور على استخدام ضوء الفلاش في تلفوني فأتمكن من الرؤية الى الأمام لكي أصل الى مدخل بنايتي. أحاط بالشارع الضيق من الجهتين، صف من المباني علوّها بين العشرة والاثني عشرة طابق، الأمر الذي كان حميمياً في أوقات حجر الكورونا بسبب سرعة وصول الصوت الى الطابق الثامن حيث أسكن، مما حوّل المدينة الى قرية صغيرة حميمة تسمع فيها أصوات الجيران وتحركاتهم اليومية. وعند تدهور حال الكهرباء، أصبح الشارع أشبه بقناة تغلّف بظلامها السبيل وأصوات الجيران كالمحابيس المنفردين، حتّى انني أتذكر ان بعد حلول العتمة على المدينة، بدأت أسمع صراخ شاب لم أكن اسمعه من قبل، صراخ وأنين يطلقهما عند حلول المساء من كل ليلة ومن ثم أخبرني جاري انه يعاني من حالة نفسية مزمنة وقد أتى وأمه ليسكنا مع أقربائهم بسبب سوء الأوضاع الاقتصادية.

 لم اعتبر نفسي يوماً أنّي في مدينة عصرية رغم أن بعض ملامح المدينة قد تبدو كذلك، لكنني، كما الكثير من حولي، لم نراها تلك المدينة المتلألئة المضاءة الكبيرة حيث الليل فيها كما النهار والأنوار فيها تبتلع النجوم وتمحي الغموض… مدينتنا ليست كذلك، كانت، ولا تزال، كما أذكرها قبل الانقطاع الشديد في الكهرباء، شبه مضاءة وبعض شوارعها أظلم من غيرهم. لم أعد أذكر في التفصيل كيف كانت الإنارة في المدينة قبل الأزمة، لكن أعمدة الإنارة ما زالت تبرق أحياناً، ولساعات معدودات، فاسترجع بعضاً من تفاصيل الإنارة منذ قبل. 

الأعمدة التي “تنير” البلد، أو الدرب في البلد، هي مصابيح بخار الصوديوم مرتفعة الضغط التي يعود تاريخ صنعها الى العام ١٩٦٠ عبر شركة جنرال إلكتريك، مع العلم ان تاريخ الإنارة في لبنان أقدم، وحافل بالصفقات والطغيان والتمرّد؛ بدأً من  وصول الكهرباء الى لبنان عبر الحكم العثماني في ١٩٠٦، والسيطرة عليها لاحقاً عبر شركات الانتداب الفرنسي  بعد هزيمة الإمبراطورية العثمانية في الحرب العالمية الأولى في ١٩٢٤ ، ومن ثم تأميمها من الدولة اللبنانية في ١٩٥٤ : العام الذي تأسست فيه “شركة كهرباء لبنان”، التي اطلقت بدورها حملة تأهيل بطيئة بلغت ذروتها عام ١٩٧٥ ، حيث وصلت الإنارة الى جميع المناطق اللبنانية بمعدل ١٠٠٪ من الامداد الكهربائي، أي أربعة وعشرون ساعة كهرباء في اليوم! 

ميكس غير منمق ومضمونه غير موسيقي، يحاول استنباط لحظات في عتمة داكنة تلاشت فيها الأشكال وتلاحم معها جسدي وعبرنا الى عالم يقظ اسفله لا يرى إلا باليدين واعمدته تتكلّم فقط لكي تحتبس. للعالم إيقاع خاص متقطع ذو نقرات بليدة أحياناً ومتشنجة أحياناً أخرى. للترحال فيه يجب تلفيق رقصة زاحفة خاصة يقودها العامود الفقري وانقباضات في المعدة.

لم يتوقف العمل على الكهرباء وامداداتها حتّى خلال الحرب الأهلية التي امتدّت الى عام ١٩٩١. 1 الكهرباء في لبنان: تاريخ قرن ونيّف (١٨٨٥ – ١٩٩٤). مؤسسة كهرباء لبنان× لما كلّ هذا العمل وهذا الكم المحرج من المنتوج؟  الحوار حول الفشل في معالجة مشكلة الكهرباء مبهم، ومن المعروف أيضاً أن إنارة الشوارع العامة في لبنان هي قضية، كالكثير غيرها من القضايا، معقدة وتشمل مجموعة متنوعة من الجهات الفاعلة والسلطات المختلفة منها مجلس الانماء والإعمار، الذي ينفّذ مشاريع إنارة الشوارع ثم يسلمها الى وزارة الأشغال العامّة، تلك التي تعنى بجميع الطرقات السريعة والطرق الدولية، الى جانب تشغيلها وصيانتها. ويتم ذلك بالتعاون مع وزارة الداخلية والبلديات، وتساعد أيضاً وزارة الطاقة والمياه عبر العديد من المشاريع، ومنها توزيع البعض من المصابيح سنوياً للبلديات. لا بدّ ان هذا الابهام ناتج عن الاختلاف المتراكب والمتضارب لجميع تلك الفئات الرسمية والذي تصحبه امتيازات كلّ منها.

 

لعلّ انقطاع الكهرباء المحبط غير مألوف للمدينة التي لطالما تم تفضيلها بحكم مركزيتها، فعندما كانت ساعات الكهرباء تأتي في مواعيد منتظمة، كانت بيروت تحظى بالعدد الأقل من ساعات التقنين. أذكر انه كانت هناك حوالي ثلاث ساعات انقطاع فقط في بيتي في منطقة الأشرفية وكنّا نستعين حينها بالمولدات… لكنّ هذا الانقطاع مألوف جداً لأهل الجبل والمناطق البعيدة عن بيروت حيث اعتاد الناس بعد حرب تموز العام 2006 مع إسرائيل على التقنين المتصاعد في ساعات الكهرباء وذهاب القسم الأكبر من ساعات الكهرباء نحو بيروت. اكتفي بذكر هذا التاريخ القريب علماً ان الاعتياد على التقنين كان من قبل حرب تمّوز بكثير…

لأهل الجبل أيضاً ماضٍ حافل مع انقطاع الكهرباء الذي لا يرتبط بالتقنين، انما بسوء تجهيز أعمدة كهرباء لبنان التي تنحني دوماً جرّاء العواصف الثلجية، حيث تتناثر أشلاء الأسلاك الكهربائية المعدنية والبلاستيكية بين المنازل وفي الساحات وعلى أطراف الطرقات وفي الأراضي الزراعية، لتنعم المناطق من بعدها بمسحة عتم قد تمتد لأيّام.

اذكر أيّام التقنين جيداً وأذكر ليال مدرسية طوال مضاءة بقنديل “اللوكس” من منتصف التسعينات الى منتصف الألفين. كان التقنين في تلك الفترة يصل الى ثماني عشر ساعة من الانقطاع في اليوم. اللوكس هو أداة إنارة ذات جسم مستطيل، يضمن شاشة حريرية ضمن زجاجية مستديرة أو معدن شبكي، ويتم اشعاله بواسطة «السبيرتو» الازرق كما يدار على جرّة غاز موصولة به. ضوئه أصفر مقزز، يفيض في الغرفة كالقيء يملأ الحيطان، ويذكرني بكلمة خولي اليونانية أي الشعيرات الصفر، وكولير الفرنسية: أي الغضب/ المرارة، وكوليرا مرض يصيب المرارة، وكلمة خولا الهندوأوروبية: أي أخضر وأصفر، وكلمة خولوس اليونانية: أي المرارة/ الغضب/ التقزز، وخوليا في ملنخوليا… ويذكرني بأشتية قاسية يجبرنا بردها القارس على التجمع أنا وأمّي وأبي وعمتيَّ في غرفة واحدة طوال الليل، دون حركة وأحياناً دون التكلّم كما لو اننا من اثاث الغرفة، والعتمة في الخارج تسلل تدريجياً الى الداخل: عتمة فوق عتمة. العتمة من عتم ويعني الإبطاء والتأخير عندما يعتّم المرء فهو يحتبس عن فعل شيء، وأعتمت حاجتك أي أخرتها، و”ضرب فلاناً فما عتّم ولا عتّب” أي لم يتباطأ في ضربه، وقيل العتمة وقت صلاة العشاء الأخيرة سميت بذلك لاستعتام نعمها، أي لتأخر وقتها. وأصل العتم عند العرب المكث والاحتباس، وعتمة الليل ظلامه. 

لا ينصدم الكثير في لبنان عندما تذهب الكهرباء ولا يتلعثمون في الحديث فجأة ان انقطعت، بالأخص سكّان الريف. كنا نجلس في بيتنا الجبلي ذات يوم ليس ببعيد، نلعب الورق على طاولة مربعة، ثم انقطعت الكهرباء وبدأ عمّي يتكلّم – كأنّ شيء حدث ولم يحدث في آن واحد – عن ذكريات أوقات أمضاها في العتمة في أواخر الخمسينات الى منتصف الستينات، الزمن الذي كانت فيه معظم القرى في الجرد دون توصيلات كهربائية وأعمدة إنارة.

بدأ يتذكر في نشاط مرح رحلة قام بها هو وجدّي، من قريتهما شارون الى قرية دير عشاير قرب الحدود… كانت القرية نائية بعض الشيء، معظم سكانها رجال مطلوبين وعائلاتهم. كان جدّي يذهب الى هناك لبيع مرهم تصنعه جدّتي من الأعشاب، لتلطيف ومداواة الجروحات التي تتعرض اليها حلمات الماعز اثناء رعيها بين الأشواك، فيسهل هذا الدواء من مهمة حلبها. لم تسمح العتمة من رؤية أي شيء من بعيد، وكان يعتري عمّي الخوف من الحيوانات البرية التي قد تفترسه وأباه، ثم تذكّر كيف أتت شاحنة ذاهبة الى منطقة قريبة من هناك، واقلّهما سائقها معه، الى ان انقطعت فيهم بعد أن صعد دخان من المحرّك إثر الحرارة الزائدة. أجبر عمّي على المشي لوحده من أجل إيجاد الماء لكي يخفف من حرارة المحرّك، وقال لي انّها كانت أسرع مرّة يجري فيها لإيجاد شيء في حياته! بعد مشي مسافات بمفردهما، سمعا صوت خافت بين الشجيرات وعندها اقترب عمّي من جدّي، الذي كان قد أدرك بدوره باقتراب ضبع كان يلحق بهما، منتظراً الوقت المناسب للانقضاض عليهما، في لحظة غفلة. كانا قد اقتربا من قرية عندها، وقام جدّي بالحياد عن طريق السير المعتاد، آخذاً طريقاً مختصراً للوصول الى القرية.. أربك ذلك الضبع، محفزّاً ايّاه للهرع كي ينقضّ عليهما، لكن دون جدوى، فكان جدّي قد قطع مسافة استبق فيها الضبع الى القرية.

بعد القيام بالزيارات في القرية، قرر جدّي الانطلاق الى المنزل والتقى عند مخرج القرية برجل يعرفه كان آتٍ لزيارة بعض الاقرباء هناك. بعد ان قاما بتبادل التحيّات، تساءل جدّي بين نفسه ما ان ينبهه بأمر الضبع فيبان كأنه هارب منه بخوف، أم يتركه بشأنه، فلعّل الضبع قد سأم من ملاحقة المارّة وذهب بعيداً… قرر جدّي عدم إخبار الرجل، وما هي الا بضع دقائق الى ان دوى صياح الرجل طالباً المساعدة من أهل القرية، الذين هرعوا لإنقاذه، مطلقين الرصاص من البنادق كي يخيفوا الضبع ويدفعون به خارج القرية. ماضي العتمة مليء بالمفترسين… أخذتني قصة عمّي بضعة أشهر الى الوراء حيث دخلت المنزل شريكتي في السكن وهي تلهث جرّاء صعود ثماني طوابق على الأدراج، كانت تشتم العتمة والمدينة والحياة في المدينة، ثم جلست، والتقطت أنفاسها، وخبرتني أن البوابة الأمامية لموقف البناية مغلقة وأنها لم تسطع فتحها بسبب انقطاع الكهرباء، فاضطرت الى ركن السيارة بعيداً، وهاجمها شاب ما كان يقود دراجة نارية، محاولاً مسّها والتحرش بها وهي في طريقها الى الشقة مشياً، طريق تستغرق أقل من دقيقة على القدم. حاضر العتمة مليء بالمفترسين أيضاً. 

وهي العتمة ذاتها التي ابتلعت غرفة نومي عندما كنت في السابعة من عمري. استيقظت ذات صباح دافئ في تلك الغرفة على ظلام دامس ملأ الغرفة بأكملها. أفيق عادة ببطء وهدوء ولكنني قفزت من الفراش آنها ولم أفهم ماذا حصل ولماذا لم أرى شيئاً. لم أدرك أين كنت، وإن كنت فعلاً في غرفة النوم، أو في مكان آخر لم أزره من قبل! كم كان الأمر موحشاً ووحيداً. ظننت أني اختطفت، فلم يكن هناك مجال لرؤية أي قطعة أثاث، أم لون، أم رمز يمكنني النظر اليه، والإدراك إني ما زلت في الغرفة. بدأت أشعر بأنني في مكان لا رجعة منه، وكأنني سأبقى في هذا الظلام الى الأبد…

 كنت أشارك الغرفة مع عمّتي الصمّاء والبكماء، إلهام، التي استيقظت قبلي وخرجت من الغرفة، قافلة الباب بإحكام كي لا تزعجني. للغرفة نافذتين زجاجيتين أيضاً، مع أباجور حديدي، والذي كان مغلقاً حينها مما حجب أي وميض كان ليساعدني على التعرّف على ما حولي، وفيها فراش أرضي رقيق، وسرير خشبي آخر، وخزانة حائط تمتّد على طول جانب من جوانب الغرفة المربعة. بدأت اسمع العصافير في الخارج مما هدّأني نوعاً ما ولكن سرعان ما عاد ليقلقني، فلماذا هناك حياة ونهار وضوء في الخارج وأنا محبوس في الظلام؟ لعلّ الهدوء الذي شعرته في البدء، مكّنني من الاستدراك بوجوب استعمال يداي لتحسس الموّاد من حولي. بدأت أتلمس الفراش، ثم ألحق حدوده بأصابعي، الى أن وصلت الى عائق خشبي… ثم بدأت التمسه بأصابعي وألحق معالمه التي قادت بأصابعي صوعداً نحو ٨٠ سنتي، مما أوحى الي انه سرير خشبي. تأكدت بعدها انه سرير غرفتي من الفراش الموضوع عليه. أنا في غرفة نومي! بدأت أراجع تقسيم الغرفة وأحاول رسم خريطة في ذهني للذهاب الى الباب. بدت الغرفة أكبر بكثير مما هي عليه، لكنني كنت أزحف فيها كما لو أن سقفها يسقط على رأسي. لم أطلق أي صرخة نجدة لأسباب عدّة، منها انني لا اعتقد انني شخص انبساطي، خاصة فيما يتعلق بالتعبير المفعم عن حالات قلقي، او الصراخ عند لحظات الألم… كما انني لم أرى جدوى من الصراخ لكون عمّتي صمّاء. لكنني كنت ألهث بتردد وأسمع لهاثي الخافت مما يزيد من حدّته. زحفت الى حدود التخت، ثم الى جانبه الآخر، الى حين قرّبت كتفي من حائط خشبي كنت قد أدركت انه باب الغرفة. لحقت بالباب بجسمي كلّه صعوداً نحو مقبضه وأنا ملتصق به، ثم اصطدم رأسي بالمقبض وتمسكت به بيدي لكي افتح الباب الذي لم يأبه بأن يطاوعني عند الدفعة الأولى، فعمتي كانت قد أقفلته بإحكام! ولعّل هذا ما قلّص وجود الضوء… تمكنت من فتح الباب أخيراً بعد مدّة عشرون دقيقة شعرت وكأنها حياة بأكملها. لا أذكر الكثير من الأفكار التي واردتني حينها، ولكنني أذكر حالة الذعر الخافت التي كنت أشعر بها، والخوف اليقظ الذي كان يعتريني… يا له من عالم موحش دخلت اليه كغريب، في قلب غرفة لا أحد يعرفها أكثر منّي. يا لها من رقصة بائسة، طويلة، ملقّنة، مهيبة، أديتها للذهاب نحو الباب، كانت، في أي يوم آخر – حيث كان أي من الباب أو النافذة مفتوحاً – لتكون حركة روتينية بسيطة، لا أفكر فيها، ولا أدرك أي شيء. 

لم يعد هناك رغبة بشيء، القيم تنهار، هل أنت كالح؟ يمكننا أن نصنع جمال لتلك الحالة، يمكنن للواحد أن يكوّن رغبة لانسحاب الرغبة ذاتها، ونتيجة لذلك، ما قد ظهر على انه اعتزال، أو انقباض مميت سيعتبر منذ الآن على انّه كرامة متناغمة.” 2 جوليا كريستيفا، شمس سوداء، الكآبة والملنخوليا ص. ١٢٢×

تكتب كريستيفا في نص تحليلي حول لوحة: جَسدُ المَسيح المَيت في القَبرْ لهانز هولباين الأصغر، محاولة استنتاج والمحادثة مع عوامل الكآبة والملنخوليا ” أي سوداوية، من اليونانية ملينا، سوادأسود. وخولي، أحد السوائل الجسمية ـ عصارة المرارةصفار، في هذا العمل الذي يصوّر فيه مرحلة من مراحل حياة المسيح، مرحلة مثير للاهتمام حيث يستلقي المسيح كجثة فارقتها الحياة منذ فترة قصيرة، وقبل وقت قليل من بدء فترة الصمل الموتي.

 تصور اللوحة أثار التعذيب والجروحات على جلد المسيح، وتغير ألوانه إثر الصلب، بشكل واقعي يقظ، وتتكلم عن كيف تحرم اللوحة المشاهد، من الارتباط الشائع في الجماليات اللاهوتية بين الجمال والخلاص، فيترك هولباين جثة المسيح، بانعزال غريب، وتقول “لعلّ العزلة – المركبة هنا – هي التي تضفي على اللوحة عبؤها السوداوي الأساسي، بشكل أشدّ من الترسيم والتلوين.” 

ومن ثم تكمل كريستيفا، عن استحالة استيعاب ما تراه العين حول ولد الله الميت. يسوع الذي قام بالمعجزات، ونادى «لِعَازَرُ اخْرُجْ!» فقام الرجل الميت من الموت. إن كان الموت بهذه الرهبة وقوانين الطبيعة بهذه القوّة فكيف نجتازها؟ كيف نجتازها وهو لم يجتازها. كيف تأكل الطبيعة من جسد لعلّها كونّت له! الجسد وما يمثله هنا منعزل وبدون أي طريق الى الأعلى من دون أي طريق نحو “الآخرة”. من دون أي عوامل تزيينيّة، وواسطات ايحائيةـ أو تلقين تصويري أو ديني، غير قدرتنا على تخيّل الموت الذي يقودنا الى انهيار في وجه القطيعة والفصل. قطيعة وفصل نحو الخلاص، نحو مرحلة ما بعد الموت، نحو تصوير يقظ لفقد المخلص… 

 عند لحظة ملنخوليا (غياب المعنى الحقيقي او الوهمي، اليأس الحقيقي أو الوهمي أو إبادة القيم الرمزية، ضمنها قيمة الحياة) هناك قطيعة أو فصل توصل صورة وسردية للكثير من حالات الفصل التي تشكّل الحياة النفسية عند الأفراد. توفر صورة وسردية لبعض الفيضانات النفسية التي تهدد بشكل أو بآخر التوازن المفترض عند الأفراد. إذاً، التحليل النفسي يحدد ويربط، سلسلة من الانفصالات كالولادة، الفطام، الانقطاع، الإحباط والإخصاء، كشرط لا غنى عنه للاستقلالية الذاتية.  ألا تمت العتمة بصلة الى “اللا تمثيلي” في لوحة هولباين، العتمة التي تمحي أدوات التمثيل وتقدّم حوار بين البنية والموت او القطيعة والفصل؟ الا يكمن تشبيه حال الموت يحال العتمة/ كتجريتان لا يمكن تنميقهما ولا الهرب منهما؟ اليس هناك انقطاع وانفصال يعترينا في حال العتمة الشديدة؟ الم يكن هناك حال انقطاع في خوف عمّي من العتمة حتّى وهو بقرب والده؟ الا تحول العتمة بين الأفراد وتقطع أحبال الأمان، ألا تحول العتمة بين المرء ونفسه؟ أليس في العتمة نفي؟ اليس فيها النفي الهيغيلي الذي ليس الغياب (غياب في الوجود أو المعنى أو الهدف أو الهوية أو الوقت أو المكان) بل الغياب النشط، الغياب كقوى وحركة تقود بالكينونات الى الأمام فالقوى غير ثابتة بطبيعتها. الغياب والانقطاع كحالات ترجعنا الى إدراك الوجود. كحالات نعيد فيها التفكير في جسمنا الكبير، في الجسم السياسي، فإن كانت العتمة تحول بين المرء ونفسه بإمكانها بالطبع أن تحول بين الجسم وأعضاءه. 

Webscore

Generator

مولد كهربائي

×