⟢Darkness in Our Cave (and Light)⟣
⟢ عتمة في مغارتنا ونور ⟣☄︎
Published
Contributors

كانت ساعة الظهر ممتدّة حين دخلت مغارة باب الشمس. في الخارج كان التراب قد استقر أخيراً. أجّج السكون التوق إلى أحبائنا الذين فقدناهم لحظة العبور. كان قد قال الروائي اللبناني فلسطيني القلب أن موقع المغارة في فلسطين. في مغارة الشمس عاش واستشهد البطل الأول والبطل الثاني اسم حبيبته التي ماتت غدرا كان شمس. توفي الكاتب اللبناني الفلسطيني القلب مؤخراً. رحل لأنه خاف من الألم الذي يلحق ببيروت.
بعد جولة طويلة من تفقد الأطلال قادتني قدماي إلى بيروت. تهت، أو خيّل لي إنني تهت، ثم وجدت فيها المغارة التي خبّأت المقاومين الفلسطينيين. “أتكون نفسها باب الشمس؟ ربّما – فإن القلبان سيان”. خلعت نعلي ودخلتها. جلست على صخرة كبيرة داخلها وتفرّجت على بقع الشمس التي تنثال على الشجر والتراب في الخارج. أطلت المكوث. لا أعرف ماذا أنتظر.
أتكون المغارة نفسها التي حبست فيها الغولة أولى ضحاياها – عروساً فلسطينية يافعة؟ بعد أن باركت لها بعرسها، قالت الغولة المتأنسنة، أنّه ليس “عندي مال ولكن خذي هذا السوار الزجاجي هديّة” وأهدتها للعروس. في الليل، طرقت الغولة باب العروس وهي تبثّ الحياة في السوار الزجاجي من وراء الباب. نادت على السوار فتحرّك موقظاً العروس التي فتحت للغولة الباب. قالت لها الغولة، “أباك على فراش الموت، فلتلحقي بي”. حين وصلتا الكهف، دفعت الغولة بالعروس الأولى داخل الكهف حيث كان الغول ينتظر. عراها الغول من مجوهراتها ومن ملابسها ثم انقضّ عليها والتهمها. عروس ثانية قضت ضحية. حين حاولت الغولة استدراج الثالثة والتي كادت أن تلقى نفس الحتف، تقفّى أهل العروس أثر الغولة وحين أمسكوا بها وطالعوا جسدها، وجدوا أن النصف العلوي فقط كان إنسانياً – الرأس والصدر. باقي جسدها كان لعنزة وحمار. ورووا أن بعد دفعها نحو الكهف، اشتعلت عينيها شراراً وقضوا عليها هناك. قالوا أن العروس الثالثة عاشت بعد ذلك بأمان.
لم يقولوا أن الغولة بُعِثَت حيّة في كهفها بعد قتلها بساعات. لم يقولوا أن إدمانها الدم الفلسطيني اللبناني، دماً قانئاً واحد، لم ينضب بميتتها الأولى. لم يقولوا أن جيران العرائس أطعموا الغولة طوعاً، ظناً مغلوطاً منهم أنهم بذلك يبعدون الشر عن أنفسهم. لم يقولوا أن الجيران لبثوا يلقون بأجساد العرائس الفلسطينيات في الكهف يوماً بعد يوم.
لا، ليست هذه المغارة نفسها.
تهب ريحاً دافئة مليحة إلى داخل الكهف مداعبة وجهي المتغضّن. ترتاح أساريري قليلاً وأشد الزم على حقيبتي التي تحمل الرسالة التي بُعِثَت، من بعيد، لي. كم من مرة قرأتها قبل هذه الساعة؟ كم من مرة قرأناها جميعاُ في عزلاتنا المتشظية؟ أفرك الصخر الرمادي بقدمي وأكمل إنتظاري. أشعر بالظمأ فجأة. مواسية عطشي العنيد، أتصور الماء المنساب.
في فلسطين، مغارة عجيبة إسمها “مغارة الدموع” تتصاعد فيها مجسّمات صخرية أنبوبية الشكل، ملساء. رملية اللون – ذاك اللون الذي يذكّر بكنبات السبعينات المخمليّة التي تقبع في مدن ليست لنا. مغارة الدموع عمرها ملايين السنين. لملايين السنين كانت الأرض تنتابها أحلاماً عنّا. (الحمد للأرض أن الأذرع البيضاء لم تنتشل مغارة الدموع وتخزنها في فضاءات الموت التي يسمونها متاحف العالم المستنير) .تتساقط الدموع فوق الصخور وعلى الأرض المجعّدة. يغطي الماء المالح الصخر الأملس ووجنتاي. أعرف المغارة فضاءً برزخياً. أعرفها فضاء يختلط فيه الحلم بالحقيقة. ألم تأخذنا أحلامنا كلنا إلى هذه البقعة المخفيّة؟ ألم نولد وعندنا معرفة بالطرق التي تؤدّي إليها؟ ألا نوقن أننا نستطيع إيجادها بأعين معصوبة؟ أليس ذلك ما يحدث الآن؟
قال فلسطيني في رواية عن فلسطيني آخر، “أنا أريد العودة إلى خرائب قريتي الطنطورة، إلى شاطئ بحرها الساكن. ففي كهف في صخرة تحت سطحه يسكن صندوق حديدي، مليء بذهب كثير، مصوغات جدتي ووالدتي وأخواتي ومصوغاتي، وضعه والدنا هناك، وأخفاه. وأعلمنا بأمره حتى يلتجئ إليه كل محتاج منّا إليه”.
لم يجد الفلسطيني سوى الصدف ثم حملته السماء.
لبثتُ في المغارة يوماً أو بعض يوم، أنظر في أفق الشمس، لا أعرف ماذا أنتظر.
في العتمة البرزخية تتلألأ ذكرياتنا التي حاولوا وأدها. في الكهف، تتخذ ذكرياتنا حيوات أخرى، أكثر حيويّة من الحياة نفسها، تتماوج مصدّرة صوتاً يذكّر بالهمهمات التي أطلقها أجدادنا قبل إغلاق أبوابهم مطمئنين وعارفين أنّ مغارتنا، أرحامنا الصخرية، تحفظ سرنا.
تحفظ شهدائنا.
“تسلّل” الأسدي عائداً عودة نشتهيها ورقد في مغارة باب الشمس يتربّصه عدوها. في المغارة إلتقى زوجته الحبيبة وروى لنا عن هيبة العودة.
هل قلت “خيبة” العودة؟
أبداً. قلت “هيبة” العودة – حتى لو سقط الأسدي شهيداً بعد غيبوبة طويلة لم نفق منها بعد. لكننا سنفوق. ومغاراتنا السريّة كثيرة.
فيها نستحضر المستقبل صوراً دافئة بعد التحرير. أحاديثنا السريّة فيها، حلقات القراءة، ساعات التأمل، دفن الكنوز غير الذهبية، والحديث الخفيض الحرج مع أحبّائنا الذين ارتقوا حتى نستمر نحن على قيد الحياة. الحب السرمدي في هذا الفضاء للشهداء. الشهادة أرفع مراتب الحب. والإيثار. والتخيّل المحرر من كل عدو للشمس.
يتناهى على سمعي، وأنا جالسة في المغارة لا أزال، عن القنبلة الحرارية. القنبلة الفراغية. اسم بريء لأسلحة اليوم الأخير. القنبلة الفراغية تنفجر وتشعل حتى الهواء. تستخدم في تفجير المغارات. للقنبلة الفراغية القدرة على تذويب الأجساد في الهواء. “تصنّع كل من القوتين العظمتين هذا النوع من القنابل وتطلق عليه الولايات المتحدة اسم «أم كل القنابل» بينما تطلق عليه روسيا − نكاية بالولايات المتحدة − اسم «أبو كل القنابل»”. وبين الأم والأبو يتشظى أولادنا.
من قلب الكهف أرى وميضها العنيد في الأفق غير البعيد – فضاء فلسطين ولبنان- وهو فضاء واحد . أيكون ذلك ما أنتظر؟ أن تفجّر القنبلة الحقيرة مغارتي؟ أن نسقط ركاماً مع حجر المغارة الوفي لعهد شعبه؟
كلّا، ليس ذلك ما أنتظر.
يلجأ الفدائيون الأبرار إلى المغارات حتى لا يلحقوا الضرر بمن يأويهم في المدن. في المغارة يقضون ساعات ممتدّة، متمعّنون في إختلاف الليل والنهار. يلعبون اللعبة التي نلعبها كل يوم: نربّي الأمل. نستحضر المستقبل صوراً شاسعة لا تتسعها إلا السماء وهذه المغارات.
في المستقبل نجتمع ليلاً، نتحلّق حول فانوس كهربائي لنستمع إلى الخراريف التي افتقدناها في منافينا الممتدّة. نجتمع صباحاً لتحضير الفطور وتناوله في شرفات بيوتنا التي عدنا إليها (وكانت أبوابها تنتظر أن نفتحها). في الظهيرة، نقف في صف صخب غير مرتّب منتظرين القفز لهواً من الصخر إلى بحرنا الذي يحفظ سر شهدائنا. ووقت الغسق، نلتقي صدفة في الحوانيت المحدثة وننفض عن أجسادنا التي أثقلها عبء غربتنا غبار حزن دامَ قرنا كاملاً.
دام يوماً أو بعض يوم.
في المغارة، أنتظر بنات وأبناء شعبي. أنتظر أن يلحقوا بي. أنتظر وصول الشهداء ليحكوا لي عن مغامراتهم في حقول الدحنون ولحظة طيران الروح من الجسد يمامة لا تعرف القنوط. في المغارة أنتظر أضغاث الأحلام أن تتحوّل إلى أجساد كاملة. أجساد معشوقة من قبل شعبها والتراب الذي احتضنها. في المغارة، أقرأ الرسالة مجدداً وأحاول، هذه المرّة، ألا ألطّخها بدمعي.
“هذا الشعور الغامض الذي أحسسته وأنت تغادر غزّة.. هذا الشعور الصغير يجب أن ينهض عملاقاً في أعماقك.. يجب أن يتضخم، يجب أن تبحث عنه كي تجد نفسك.. هنا بين أنقاض الهزيمة البشعة.. لن آتي إليك.. بل عد أنت الينا.”
وأنا في المغارة، أحاول أن أعود.
⟣⟣⟣❦⟢⟢⟢