'Cartogrophy of Darkness' is a transclusive, collective research platform dedicated to exploring universalisms and the unity of knowledge in our highly obfuscated, crisis-ridden age. The platform is comprised of a triad of spaces: a map, a repository and a periodical.

«خريطة الظّلام» هي منصّة بحثيّة تشاركيّة تستقصي مفاهيم العالميّة والاتحاد المعرفي من منطلق الزمكانيّة الآنية، المتأزمة والمبهمة. تتكون المنصّة من ثلاثيّة حيزيّة تضمُّ خريطة وحاوية وسلسلة.

╭The Aesthetics of Darkness in Electronic Music: Between Dystopian Lures and Futuristic Fixations╮

╮جماليات الظلام في الموسيقى الإلكترونيّة: بين غواية الديستوبيا والهوس بالمستقبل╭☄︎

Published

24 January 2025

Contributors

ABADIR
أبادير

أبادير هو منتج موسيقي، ومصمم صوت، ودي جي، وناقد موسيقي وُلد في القاهرة، مصر، ويقيم حاليًا في برلين، ألمانيا. يتنوع عمله بين طيف واسع من الأساليب، حيث يجمع بين الموسيقى السينمائية والراقصة والمحيطة. تتناول مفاهيم عمله موضوعات مستوحاة من الخيال والذاكرة والموروثات الثقافية. تمتد ممارسته الفنية إلى المجال الأكاديمي، والنقد الموسيقي، والنظريات النقدية. يحمل درجة […]

Amnesia Scanner, live at MUTEK Mexico

أضواء بيضاء ساطعة شديدة السرعة، أجواء حمراء نارية تخمد وتتلاشى الى السواد في ايقاعات متقطعة، تأديات مبهمة لأصوات تزعق بصخب في المايكروفون بينما تتصادم أجساد البشر وسط ردم  الأدخنة. كل هذه العناصر الحادّة تندحر في مساحة يطغى عليها حس سوداوي عام. تستحضر هذه الصورة لدى جمهور المنطقة العربية ومن شارك في ثورتها اشتباكات مع قوات الأمن أو يوم مظلم ضمن نضالات الفلسطينيين، أو تجربة بلدان أخرى خارج المنطقة تشتبك وتواجه قمعًا سياسيًا. من أول نظرة، يصعب تصوّر هذا المشهد في نادي ليلي أو أحد المهرجانات أو قاعات العرض الأوروبيّة أو الأمريكيّة أو الانجليزيّة، فهذه الصور السوداوية تعكس كارثةً ما. لكن، بالفعل، نجد هذه الأجواء موظفة بغرض جمالي في المشهد الإلكتروني المغامر لدى العديد من المنتجين الموسيقيين في سردية أعمالهم ومروجي الحفلات والمهرجانات في تقديم برامجهم، مستلهمةً مصادرها من ديستوبية الخيال العلمي ومستقبل قريب مظلم. تتداول هذه الصور الديستوبيّة ومفرداتها بكثرة أيضًا في كتابات ومراجعات العديد من النقاد الموسيقيين، لتسفر عن دائرة آثار مرتدة من خلال توظيفها من قبل المزيد من المنتجين الصاعدين وشركات التسجيل في موسيقتهم وبصرياتهم، وفي النصوص الترويجية لوصف أو تغطية العديد من الألبومات والعروض. لا مفر من الديستوبيا والسيناريوهات الرؤيويّة للفاجعة والهوس بمستقبل حتمي داكن أينما ذهبنا. صار تأثيرها آثر ومغري بصرف النظر عن غرضها الرئيسي، فأصبحت وصفة “آمنة” لجمهور يريد الانغماس وسط المزيد من جماليات الظلام دون رغبة لمساءلة الحاضر مهما كان داكنًا.

أركّز في هذا المقال على الرؤية الديستوبية والهوس بالمستقبل وما يصاحبهما من جماليات ظلامية في المشهد الإلكتروني المغامر. يستعرض المقال الرؤية المستقبلية وجذور الجماليات المظلمة في تسعينات القرن الماضي ابتداء من مشهد الجانغل وصولًا إلى العقود التالية في المشهد الإلكتروني المغامر راصدًا تطوّر هذه الجماليات وزياداتها مؤخرًا إلى درجة التشبّع في أوروبا وأمريكا وانجلترا. من خلال الاستشهاد بعدّة أمثلة من ممارسات فنانين وشركات تسجيل ومنظّرين، أحاول بقدر الإمكان رصد دلالتها ونقدها بغرض الوصول إلى رؤية بديلة لإمكانية الخروج منها، دون الوقوع في فخ الثنائيات مثل الديستوبيا واليوتوبيا، أو المستقبل والماضي، أو الجديد والقديم، والظلام والنور.

من الموجة المستقبلية الإيطالية إلى المستقبلية الأفريقية

ارتبط مفهوم المستقبلية بدفع حدود الموسيقى إلى الأمام، حيث تلعب التكنولوجيا دورًا حيويًا في تصوّر مستقبل محملٍ بامكانيات جماليّة ومفاهيميّة جديدة. من أوائل التيارات التي تبنّت مفهوم المستقبلية هي  حركة المستقبلية الإيطالية. يبلور The Art of Noise (1913) للويجي روسولو خلاصة أفكارهم عن الخامات الصوتيّة اللانهائيّة التي تتيحها الضوضاء مقارنةً بالخامات المحدودة لآلات الأوركيسترا التقليدية. تزامن ذلك مع القفزات التكنولوجية السريعة في أوائل القرن الماضي وجاءت أفكارهم بمثابة ثورة على التقاليد الموسيقية والسعي لمستقبل صوتي مختلف. لكن من الواجب التشديد على حس الحركة التدميري وارتباطه بالفاشية، فالرؤية المستقبليّة اعتمدت بالأساس على عسكرة التكنولوجيا وتسريع إنتاجها، وكذلك المجاهدة بتجميل (aestheticization) الحرب وكراهية النساء كما نرى في البند التاسع من مانيفستو المستقبلية لفيليبو مارينيتي، “نريد أن نمجّد الحرب – العلاج الوحيد للعالم – النزعة العسكريّة، الوطنيّة، اللفتة التدميريّة للفوضويين، الأفكار الجميلة التي تقتل، وتحتقر المرأة. 1 للمزيد من المعلومات حول  ارتباط الحركة المستقبليّة بالحركة الفاشيّة وجانبها غير الإنساني، الرجاء الاطلاع على الفصل الأوّل من كتاب بنجامين نويس Malign Velocities: Accelerationism and Capitalism (2014). ×

بعد الحرب العالمية الثانية، ظهرت ماكينات الشرائط وتشكّلت معامل للأبحاث الصوتيّة في ألمانيا والهند وفرنسا وإنجلترا وغيرها أسفرت عن خامات صوتية جديدة من الموسيقى الماديّة (concrete music) التي لم تناصر الرؤية الفاشيّة للحركة المستقبليّة. على مدار العشرين عام بعد الحرب، شاهدنا قفزات تكنولوجيّة أدّت إلى تمهين الحوسبة وتوليف الأصوات (sound synthesis) مستعينة بأدوات وأساليب إلكترونيّة جديدة. خلق موسيقيون مثل صن رع وجورج كلينتون ومايلز دايفيس، كما العديد من منتجي التكنو من بعدهم في نصف وأواخر الثمانينات، عالمًا هجين، خاصًا بهم، مركّب من ثقافات وعصور وتقنيات عدّة، يغلب عليه طابع الخيال العلمي فكسروا، من خلال هذا التخليق التكنو-سياسي، مفاهيم شائعة وخاطئة عن أصوليّة الثقافات السوداء. أشار المفكّر والكاتب كودوو إشون في كتابه “More Brilliant Than the Sun: Adventures in Sonic Fiction”(1998) على مزج الجانب الخيالي بالموسيقى والنصوص المكتوبة والتكنولوجيا للتصدي لمفاهيم الأصالة والصورة النمطية عن أفارقة الشتات مستعينًا بمفهومه الخيال الصوتي. تظهر السمة المستقبليّة في كتاب إشون والتي تختلف تمامًا عن المستقبلية الإيطالية، إذ استعان بأفكار حديثة في التسعينات تمثّلت في المستقبلية الأفريقية وما بعد الإنسانية من خلال نظريّة السايبورج لـ دونا هاراواي لتسليح أفارقة الشتات صوتيًا ومفاهيميًا، ففي التكنولوجيا تكمن الفرص للعبور إلى منطقة أكثر أمانًا تخلو من الماضي الاستعماري وما بعد الاستعماري.

“… الحد بين الخيال العلمي والواقع الاجتماعي وهم بصري” دونا هاراواي

الخيال الصوتي لدى دريكسيا مثال قوي على ذلك؛ ضحايا تجارة العبيد باتوا قادرين على التنفّس تحت الماء وطوّروا قدرات خارقة تفوق قدرات البشر للرجوع مرّة أخرى إلى أرضهم الأصليّة. قبل انشاء ديو دريكسيا بعقدين، هبط صن رع من الفضاء الخارجي كما يظهر في فيلم “Space is The Only Place” (1974) لإنشاء مستعمرة للسود في كوكب آخر. أما إيشون، فروى  في كتابه أنّ “السنث يحوّل المنتج إلى ملّاح يتحرك عبر الفضاء الخيالي… من يتحكم في السنث يتحكم في صوت المستقبل… والأمريكيون السود مواد مخلّقة. السر في التكنو هو أن تخلّق نفسك لتصبح كائنًا فضائيًا أمريكيًا جديدًا.” نرصد خلال هذه الأمثلة وغيرها من سرديّات منتجي التكنو والدَب والإلكترو توق لمستقبل مغاير للحاضر وسرديّة مستقبلية يعيد من خلالها أفارقة الشتات الهيمنة على التكنولوجيا رغبةً في حياة أفضل. يبدو لي النزوح إلى المستقبل من قبل المستقبليين الأفارقة أمرًا له وجاهته، فقد نشأوا بالفعل وسط بيئة وتوقيت ازدهرت فيه التكنولوجيا وقصص وأفلام الخيال العلمي بجانب عصور من الشتات والاضطهاد. يظهر المستقبل أو الخيال هنا ملجأ أخير وأمل ممكن للتحرّر من العنصرية ورؤيتها القمعيّة، ولكن، بالمفارقة عن التصوّرات المستقبلية الآنية في الغرب، فمن الصعب رصد أي عوامل ديستوبية أو حس عدمي أو سوداوي في هذه الخيالات الصوتيّة.

التسارعية وأثرها على الجانغل

“الجديد الذي جاء به الجانغل نتج عن الانتشار الواسع لتقنيات المعاينة (أي السامبلنج)، التي أتاحت أصواتًا جديدة وطريقًا جديدة لمعالجة الصوت (التلاعب  بالإيقاعات والغناء عن طريق تقطيعهم ومطهم وإضافة المؤثرات الصوتية) … كان ذلك، بحسب كلمات كودوُ إشون الشهيرة، “سايكاديليا إيقاعية“، مؤلفة من منحنيات و التفافات ودوامات صوتيّة. لم يكن هناك أي من الخطوط الآلية الجامدة للتكنو. كان الجانغل مظلمًا، ولكنه كان أيضًا رطبًا ولزجًا وغامرًا”

هكذا وصف المنظّر والناقد البريطاني مارك فيشر موسيقى الجانغل التي انتشرت في بريطانيا بشكل واسع في التسعينات. مثلها مثل أنواع موسيقية مستقبليّة أخرى فإن ولع الجانغل بالمستقبل يتّضح من خلال أسامي تراكات كـ”Terminator”, “Timeless”,  وتايملس و“Futuroid” و“I Bring You the Future” و“Living for the Future” و“We Are the Future” و“Roots N’ Future”. كما اشتهر بالمشاهد الصوتية وعينات من أفلام الخيال العلمي بالأخص أفلام السايبربنك مثل Terminator (1984) وBlade Runner (1982) وRobocop (1987) وPredator 2 (1990). من خلال وصف فيشر وكلام إيشون عن الجانغل المذكورين أعلاه، وعند الاستماع للعيّنات  الصوتيّة والتأثيرات الخياليّة في الجانغل، يتبيّن بسهولة طابعها المظلم وتتضح سيناريوهاتها الديستوبية ونزعتها للهروب من الواقع. يطغى على الجانغل موسيقيًا ونظريًا طابع تسارعي بشكل أساسي، إذ هناك إمكانيات توفّرها التكنولوجيا ليست حصرًا على الرأسماليّة فيمكن إعادة انتاجيتها بطرقٍ مفارقة.  وعلى حسب المنظّرين نك سرنك وألكس ويليامز فإن “البنية التحتيّة الحاليّة ليست مرحلة للرأسمالية يجب تحطيمها؛ انها مقفز للوصول إلى ما بعد الرأسمالية”. يتفق الفيلسوف ستيفن شافيرو مع هذا الطرح مشيرًا “. . .عن طريق الاستفادة من إمكانيات الرأسمالية، سنتمكن من استنفاذها لكي نصل إلى شيء يتجاوزها”. هكذا تعرّف التسارعيّة اليساريّة التي لقت قبولًا أثناء العقد الماضي في الأوساط الفنيّة والأكاديميّة واستمر فيشر في تأييدها بحثًا عن أملٍ ما، كما نرى في كتابه الأخير Postcapitalist Desire: The Final Lectures (2016).

قد يلائم هذا التوجه اليسار الغربي بسبب توّفر البنية التحتية والرفاهية الملائمة لذلك، لكن على الجانب الآخر، فإن تسريع الرأسمالية ودفع حدودها واستغلالها كوسيلة للخروج منها قد يشكل مزيد من القمع والضغوط على سكّان الدول المنهوبة والمجموعات المهمّشة المتعدّدة.  في بعض الأماكن في عالمنا هذا، تسريع الرأسمالية قد يساوي الموت البطيء. هكذا يعكس الواقع في غزّة، الانتقال من الموت البطيء إلى القتل السريع من قبل العدو الصهيوني. حيث أن تسريع الرأسمالية أدّى بشكل حتمي إلى أتمتة نظم الإبادة وديستوبيا حقيقية بتكنولوجيا فائقة التطوّر. 2 التنظير بأن التكنولوجيا ليست حصرًا على الرأسمالية مشروع، ولكن يجب الأخذ في الاعتبار عسكرة التكنولوجيا وتوحّش الرأسمالية بشكل توسّعي ومعمّى مثل في أمريكا وألمانيا ممّا  يدفعها إلى تبدية مصالحها الاقتصادية والتوسعية عن حياة الأبرياء والمقاومين في سبيل التحرر، الأمر الذي دفع البلدين إلى تسليح العدو الصهيوني، بل والتبجح في ذلك. ليث حديثنا هنا عن أتمتة الصناعة أو عن علاقة شد وجذب حول تملّك التكنولوجيا والذكاء الاصطناعي وتوظيفه جماليًا في الفنون والموسيقى أو الحياة اليومية بين كيان رأسمالي وفنانين أو مستهلكين، لكن الحديث هنا عن قتل حتمي من قِبَل مرتزقة مزوّدة بأعلى الإمكانيات التكنولوجية والذكاء اصطناعية لتدمير شعب بأكمله. لذلك فإن إعادة النظر في سبل التكنولوجيا، والرفاهية والجماليات النابعة منها أمر ملح للغاية في الوقت الحالي يتطلب حسًا أكثر نقدية.× من الواجب إعادة النظر في ارتباط التكنولوجيا بالبعد التسارعي والمستقبلي والديستوبي والنظريات ما بعد الإنسانية التي باتت منفصلة عن الواقع ومنتهية الصلاحية، فغزة تجب ما قبلها.

استكمالًا للحديث عن الجانغل، تتضح معالم التسارعيّة من خلال التعامل بشكل إبداعي مع التكنولوجيا للوصول إلى سرعات وأساليب إيقاعية وأصوات إلكترونية تتعدى القدرات البشرية. لكن هذه الرؤية المستقبليّة قد تأخذ منحنى  ظلامي وديستوبي متعدي للإنسان (transhuman) وهو ما آلت إليه وحدة أبحاث الثقافة السيبرانية التي عرفت بأواخر التسعينات بالـ Cybernetic Culture Research Unit (CCRU) وهي المجموعة التي انتسب إليها فيشر وإيشون وراينولدز وسادي بلانت ونِك لاند ومنظرين آخرين. أصبح الجانغل بمثابة موسيقى المجموعة التصويرية كما نرى في نص “Swarmachines”سوورم ماشين المكتوب بأسلوب خيالي تدميري، “الجانغل هو الرسم التخطيطي التجريدي لصيرورة غير إنسانية على الكوكب. الرهبة خارجة عن السيطرة. لمسة غامرة ما بعد مذهلة لا يمكن لأي رؤية إنسانية أن تجعلك على اتصال بها.” ارتبطت الوحدة بنسبة كبيرة بنِك لاند الذي انحرف يمينًا، فنص مثل “Meltdown” بأسلوبه الغريب السوداوي يعكس رؤيات مستقبليّة تكنوسياسية مأتمتة قائمة على العدميّة والجبرية الانهزامية والتفوقيّة العنصريّة. 3 للمزيد من المعلومات عن النص وارتباطه بالجانغل، رجاء الاطلاع على بودكاست Swarmachines Rewind على موقع Urbamonic على هذا الرابط https://www.urbanomic.com/podcast/swarmachines-rewind/× هوس لاند بالدراسات السيبرانية والتكنولوجيا وتسلل الخيال العلمي إلى الواقع وصل إلى الترويج لحالة التفرّد التكنولوجي؛ مرحلة تعدي الذكاء الاصطناعي ذكاء الإنسان ووصوله إلى الوعي. بالإضافة إلى تبنيه إلى ما عُرف بالرجعية الجديدة منغمسًا في الرأسمالية إلى أقصى درجة حتى كتابته لمانيفستو العدمية السيبرانية.

مع نهاية التسعينات ومع انتشار النيوروفنك (أحد الجنرات الفرعية للجانغل) دَغش واشتد المشهد بالموسيقي الداكنة باتت الإيقاعات ستاتيكية وازدادت حدّة وقسوة الأصوات التي خلت من عناصر بشرية معروفة. انغلقت الجماليات البصرية والثيمات المتكرّرة على نفسها لتصير أكثر سوداوية. خلى النيوروفنك من المعالم المرحة التي وُجدت في الراجا جانغل والتلاعب بالفواصل الإيقاعية المنتشر حتى منتصف التسعينات، ليستحضر منتجي النيوروفنك حالة من القلق لدى المستمعين، بالإضافة إلى تجميل الإيجاس الذهني. هجر الراقصون قاعات الدرام أند بايس لقاعات موسيقى الغراج، الأمر الذي كان صدمة لمنتجي المشهد الذي نزحت الأضواء عنه تمامًا. بدا أن انشغال المنتجين بالتجريب في الجنرا والإفراط في سوداويتها عزلهم عما يدور في قاعات الرقص. ملَّ رواد الموسيقى الراقصة، ولم يعد الدرام أَند بايس مستقبليًا ولا يطرح أى جديد. يعلق الناقد سايمون راينولدز في حديث له عن الدرَم أند بايس والغراج “أصبح الدرام أَند بايس صعبًا للغاية – لقد كان مشهدًا يتّسم بالاستعراض الذكوري إلى حد كبير، وقد جذبت هذه الموسيقى الجديدة الجنسين بالتساوي. كان لديها عنصر البوب، وخرجت منه أغاني ضاربة. كان شيئًا أحبه الكثيرون في بريطانيا، أكثر من الجانغل، وأصبح أكثر شعبية منه.” نبعت سوداوية الجانغل في تصوري من نمو التكنولوجيا بشكل تصاعدي ورغبة في التجريب ودفع الحدود الصوتية والمفاهيمية إلى أقصى مدى. الإلهام الأهم هو الخيال العلمي وسرديات السايبربنك الديستوبية التي نتجت عن توجس مستمر من المستقبل وشك في أصول ومستقبل التكنولوجيا التي تنمو تصاعديًا وأزمات وثورات مستمرة بين حروب عالمية وأخرى باردة.

العقد الأول من الألفية وأفول نجم الديستوبيا

شكّلت تسجيلات ميل بلاتو صوت الموسيقى الإلكترونية في العقد التالي بأكمله، متناولةً توجهًا تسارعيًا يساريًا. اعتمدت ميل بلاتو على اختراق التيار السائد، وخلخلة احتوائه للأنواع الموسيقية الإلكترونية مثل الهاوس والتكنو، لتطرح إصداراته رؤية نقدية للرأسمالية، دون وجود حرج في استغلال آلياتها لمواجهتها. لم تكتف ميل بلاتو بقوة النص فقط في وصف الإصدارات والتنظير عليها، بل كان جزءًا لا يتجزأ من الإصدارات التي طوّرت جماليات جديدة، عن طريق توظيف عنصر الخلل الرقمي glitch والمواد الصوتية الميكروسكوبية. كان توجّه ميل بلاتو ماديًا وأكثر عملية وراديكالية وارتباطًا بالواقع من أن يتناول مفاهيم خيالية ومجازات ويذهب إلى عوالم ديستوبية. ارتكزت رؤية ميل بلاتو على الحاضر وقضاياه، فلم تحتاج إلى عوامل وسرديات مستقبلية أو سيناريوهات أبوكاليبسية لتطرح جديدًا في المشهد الإلكتروني. أعتبر أشيم سبانسكي مؤسس ميل بلاتو والذي رحل عنّا في أكتوبر الماضي واحدًا من الأصوات القليلة اليسارية الصادقة في المشهد الإلكتروني.

Kode9 and Spaceape, “Black Sun” غلاف ألبوم

إذا توجهنا إلى أعمال تسجيلات هايبردَب في هذه الفترة، نرى استمرارية المستقبلية الأفريقية في تعاونات كود9 وسبيس أيب. ما زالت كلمات سبيس أيب شخصية تضغط على نقاط اجتماعية مغلّفة بالخيال كما ورد في مقابلته مع دي إم واي. بذلك، فإن الماضي يسكن الحاضر ويساعد على التطوير ومحاولة عدم الاستسلام لاستيلاء الواقع الرأسمالي على المستقبل، وهو ما يعرفه أيضًا فيشر بالمسكونية (hauntology). تقع أعمال كود9 وسبيس أيب، ميموريز أُف ذَ فيوتشر وبلاك صن في هذا النطاق، متأثرة بثيمات مستقبلية أفريقية نتبينها في أشعار سبيس أيب وشخصيته الخيالية القادمة من البحر، مثل دريكسيا. هذا المشروع تناول المستقبلية الأفريقية بصفة مسكونية.

“ولكن هناك مجموعة من المشاعر في الألبوم والتي أعتقد أننا نبذل قصارى جهدنا للإشارة إليها لأنه من السهل على الأشخاص التركيز على الجانب المظلم الديستوبي من الأشياء، وهو يشبه تقريبًا رد فعل غير محسوب على ما نقوم به. يسمعون صوته ويسمعون بعضًا من الموسيقى، ويعودون تلقائيًا إلى عالم الخيال العلمي، عالم ديستوبي، في المستقبل، بلاه بلاه.”

بهذه الكلمات يعلق كود9 على تلقي الصحافة والجمهور لألبوم بلاك صن (2011)، مخاطباً قراءة كسولة لسرديات الديستوبية وهو ما يأكّد عليه أيضًا سبيس أيب في هذه المقابلة الأخرى. نجد نفس الأمر في إصدارات بريال أيضًا، حيث بريال غير معني بالديستوبيا على قدر ما يستحضر أجواء ومشاهد صوتية داكنة حينًا وميلانكولية معتمدًا على أشباح الماضي والمستقبل الضائع في الدب ستب والغراج ومصادر صوتية ملتوية. تعليق كود9 في محله، إذ يرصد ولع الصحافة ومن ثم الجمهور والمهرجانات والفنانين الصاعدين في العقد الماضي بالديستوبيا.

عودة الديستوبية وتوغّلها

العقد الماضي حافل بالثيمات والصور الديستوبية وتركيز على الجماليات المفكّكة والسمات المستقبليّة المظلمة في الموسيقى ونصوصها. شهدنا حينها قفزة في المشهد الإلكتروني المغامر ووفرة في المنتجين وأعمالهم المجددة التي دفعت حدود الجنرا إلى الأمام. انتعش المشهد ليشمل استمرارية عالمية على صعيد المدن والمشاهد الصغيرة التي تشكلت بعيد عن المركزية الأوروبية الإنجليزية الأمريكية. ظهر منتجون وشركات تسجيل ومشاهد من جميع أنحاء العالم، في المنطقة العربية وشرق أفريقيا وأمريكا الجنوبية والصين وشرق أوروبا. نشأت شبكات من المنتجين والمشاهد على الإنترنت أسفرت عن طفرات موسيقية في المشهد الإلكتروني بشكل عام. في الوقت نفسه نرى استمرارية وانغماس واضح في الديستوبية والجماليات السوداوية والهوس بالمستقبل بشكل تصاعدي لتسفر عن دائرة آثار مرتدة بين العاملين في هذا المشهد.

انتشرت كتابات مارك فيشر وسط المشهد الإلكتروني التجريبي خلال العقد الماضي بالأخص بعد رحيله في 2017. كان رؤية فيشر عن الموسيقى مبنية بشكل كبير على إنتاج فترة الألفينات. يرى في كتاب أشباح حياتي أن التجديد والتطوير في الموسيقى انتهى كما لو أن الزمن توقف وانطوى على ذاته، إذ ساد استنساخ للماضي والفقر الإبداعي وندرة التجريب منذ مطلع الألفية الجديدة وحتى منتصف العقد الماضي. تبنى فيشر في نظريته هذه مفهوم الزمن الثقافي للمفكر فرانكو بيفو بيراردي، الذي قاس سير الزمن بمدى التجديد في الإنتاج الثقافي (والموسيقي في سياق فيشر)، وسلّط الضوء على ما سماه بالإلغاء البطيء للمستقبل. على حسب فيشر، فإن الواقعية الرأسمالية قضت وألغت المستقبل وظهر ذلك من خلال الموجة الاستعادية وانعدام أي حس مجدد.

لا أتفق تمامًا مع رأي فيشر، فعلى مستوى الموسيقى فإن العقد الماضي حتى الآن حافل بالتجديد ورغبة جادّة في الإبداع. جميع الأمثلة التي سأتطرّق إليها لاحقًا من الصعب تصور تواجد موسيقتها في التسعينات أو قبلها. لكن، على المستوى المفاهيمي والبصري، نرى الصفة الاستعادية حاضرة. مقاربة المفاهيم والبصريات في هذا المشهد مع العديد من أفلام هوليوود سهلة؛ العديد من الأفلام الاستعادية مثل بلايد رانر وماد ماكس وروبوكب وذَ ميتريكس وترمينيتور وغيرها وليدة الثمانينات وتعكس تصوّرات ديستوبية وتكنولوجية سوداوية عن المستقبل. ربما بسبب النوستالجيا وفقر الخبرات المعاصرة، فإن إعادة إحياء هذه الأفلام بعد ثلاثين عام ما زال يستمد تكهناته عن المستقبل من خلال تصوّرات الماضي له. أي أنه رغم كل التطوّر التكنولوجي الذي طال صناعة السينما، فإن تصورات المستقبل بقيت حبيسة الماضي، خصوصًا موجة السايبربنك.

على سبيل المثال تأتي سردية ألبوم إيج أُف لـ أونيوتريكس بوينت نيفر (دنيال لوباتين) على غرار أفكار نِك لاند وسعيها إلى الأحادية التكنولوجية، “إنها نهاية الكون، والشيء الوحيد المتبقي هو الذكاء الاصطناعي وهم الآلهة الآن” هكذا وصف لوباتين ثيمة ألبومه ما بعد الأبوكاليبسية ووصفت الجارديان عرضه الحي في مسرح باربيكان “رحلة إلى ديستوبية صوتية يسيل لها اللعاب”. إن موسيقى الألبوم لا تعطي انطباعًا مباشرًا على ذلك، حيث يصيغ لوباتين فكرته موسيقيًا بحرفيّة. يصعب التعرّف إذا كان هناك حسًا نقديًا من خلال الرؤية الديستوبية منذرًا من كارثة ما، أم هناك توجهًا احتفائيًا بالأحادية التكنولوجية. في فيديو ستيل لايف من ألبومه جاردن أُف ديليت، يعتمد لوباتان على عنصر الصدمة في بصريات مظلمة وإن خلت من عناصر الديستوبية. يتناول الفيديو مصادر ذكورية تشير إلى حياة الـ beta male وتتباين الموسيقى مع الصورة. المثير للاهتمام هو عرض لوباتين للفيديو على موقع فور تشان المعروف بكونه ملجأ البيتا ميل. يقول الكاتب والموسيقي إيميل فرانكل في كتابه هيرينج ذَ كلاود “في حين أن لوباتين لا يشارك السياسة الأوسع للفور تشان، يتم التعبير عن نقد الثقافة الموجودة في عمله بطريقة تقترب بسهولة من الانبهار أكثر من النفي… إن سياسات لوباتين موحّلة للغاية لدرجة أنها تدعم دون قصد ما تزعم انتقاده”. 4 على غرار ذلك، يعلّق مارك فيشر في مقابلة معه في مجلة فايس على قرار اغلاقه مجموعة على فيسبوك بإسم الديستوبيا المملّة، “شعرت وكأنها تعزّز الحالة التي كان من المفترض أن تحل محلها”. أطلق فيشر المجموعة عام 2015 ولم تستمر إلا بضعة أشهر. كان الغرض من مجموعة الديستوبيا المملة نشر صور تعكس الواقع الديستوبي الحقيقي الذي تعيشه بريطانيا. لكن سرعان ما فقد السيطرة على المجموعة وتحولت هدف المجموعة من زيادة الوعي بالحالة البريطانية إلى انغماس في الديستوبيا. كان قرار فيشر بغلق الجروب بمثابة الملل من الديستوبيا المملة، بمعنى آخر الملل في الغوص في الديستوبيا وتجميلها دون وجود أي تحرك تجاهها. تأتي فكرة فرانكل عن الديستوبيا صدى لكلام فيشرإن التخيلات الديستوبية هي أشياء غير مستقرة، فهي تلهمنا، وتغوينا، وغالبًا ما تجعل العمل السياسي مغالطة”. ×

اختلطت اليوتوبيا بالديستوبيا في إصدارات تسجيلات إيكو فيوتشريزم كوربوريشن وبايو فيوتشر لاب، تستحضر مفاهيم الألبومات صور ديستوبية. إن بدت يوتوبية وخضراء ومهووسة بالحفاظ على الطبيعة، فمن ناحية أخرى تخلو من البشر وتسودها كائنات فضائية وآلات وذكاء اصطناعي يتحكم في الكون. سعي إيكو فيوتشريزم كوربوريشن إلى مستقبل يوتوبي خالي من الكوارث البيئية، يصاحبه انعدام العنصر البشري، خلطة مركبة من خيال الأنثروبوسين والأحادية التكنولوجية. يكمن لدى البعض دافع في صياغة هذه العوالم الديستوبية وهو الإنذار من كارثة كونية بسبب تزايد الكوارث البيئية والتوسع الرأسمالي والتيارات اليمينية المتعصّبة والحروب والمحاولات الثوريّة والأزمات الاقتصادية والطاقة مع استمرارية التطور التكنولوجي بشكل تصاعدي إلى درجة مثيرة للشك. لكن، من المحبط تحوّل السرديات الديستوبية إلى مجرّد لطميات تستمد جمالياتها ومفاهيمها من الماضي وتعيد استنساخه بتكنولوجيا أعلى، وإن تحرّرت موسيقات هذه الأعمال من الماضي. أرى أن فكرة الديستوبيا بكل ظلاميتها في حد ذاتها استعادية، فإن الفقر الإبداعي في البلدان الغربية وصل به الحال إلى نقطة عدمية وعدم الرغبة في تغيير الحاضر، وربط المستقبل وأي فعل جمالي أو اجتماعي بالديستوبيا في العديد من الأحيان. مع تزايد الأعمال الديستوبية وتنميطها بطريقة توسّعية، فإن الإفراط في جمالياتها ونصوصها يعني زيادة اغرائها للمنتجين الصاعدين كمعادلة مضمونة وأداة ترويجية “آمنة” لأعمالهم، ومن ثم نرى مزيد من الانغماس في جماليات مظلمة ديستوبية.

Eco Futurism Corporation – Ecomodern vol. 1 غلاف ألبوم

تعكس أعمال الثنائي أمنيجيا سكانر ما ذكرته، فبجانب أثرهم القوي موسيقيًا بجماليتهم المفككة، يتضح انشغالهم بالمستقبل المظلم. يرى إيميل فرانكل أعمال أمنيجيا سكانر الأولى ذات صلة بوحدة أبحاث الدراسة السيبرانية، فالفيديوهات الأولى تحتوي روبوتات بوستون دايناميك، أجسام متذبذبة تستحضر نوستالجيا للمستقبلية الموجودة في أفلام الخيال العلمي في هوليوود. يشير فرانكل في فيديو آخر إلى أشباه بشر يرقصون في مشهد ما بعد أبوكاليبسي. كما يعلق “يظهر نجاح أمنيجيا سكانر في الاستيلاء على ما بعد الإنسانية (transhumanism) التسعيناتية وتفاقمها، كل ذلك ضمن عدسة من الحنين المثير للسخرية إلى حد ما … وبسبب هذا الاعتماد على الماضي، تم تقويض رؤيتهم المستقبلية”، حيث تطغي الصفة الاستعادية على الجانب المفاهيمي والبصري. يستكشف ألبوم آنذر لايف حاضرًا مصابًا بالفصام يتميز بروايات نهاية العالم البطيئة أو الخلاص عبر التكنولوجيا. أما تيرلس فيعكس صوتيًا “اختبار الأرض في وقت يظهر فيه الانهيار باعتباره السرد السائد…ألبوم خصام مع الكوكب”. تمتد العناصر الديستوبية في عروضهم الحية. من تجربتي، فإن عروضهم مكثفة من حيث الإضاءة البيضاء التي تنبض بسرعة شديدة والخلفية الحمراء والبصريات السريعة والقاعة المشبعة بالدخان. 5 عروض المنتج الأمريكي البارع فيتنس فتفوق حدة عروض أمنيجيا سكانر أو الليالي الراقصة الهاربة من الواقع، من حيث ظلاميتها. فلا يكتفي فيتنس بالبصريات الحمراء والأضواء البيضاء الساطعة شديدة السرعة وماكينة الدخان، فيشتبك عرضه المسرحي الأدائي بقوة مع الجمهور وقد استمدت جماليات أزيائها ذوقها من السايبربنك. مجهود عضلي وذهني ونفس طويل وقدرة تحمل يوظفهم فيتنس في أدائه مصطدمًا بجمهوره مما يحفز على الأخير في التفاعل معه بمزيد من التصادم من خلال حلقة من الموشبيت منغمسًا في مشهد عدمي عنيف يجد لذة وملجأ في الانسلاخ عن الواقع أثناء مدّة العرض. ×

Blackhaine, live at Sonar Festival

نجد نفس الجماليات البصرية في عروض بلاكهين مع مزيد من العنف الأدائي ينسجم مع كلماته الغاضبة. موسيقى بلاكهين تحتوي عناصر مفككة من الدريل والجرايم تتخللها مشاهد صوتية محيطة. أما كلماته كما نرى في وصف ألبوماته، تجمع ما بين أزماته الشخصية وترصد جوانب اجتماعية أيضًا، تستمد مفاهيمها من الواقعية الاشتراكية والسريالية والبوست بانك وتتطرق إلى حال بريطانيا بعد بركزيت. لا يوجد وصف صريح لديستوبيا ما والكلمات غاضبة لكنها أكثر اتصالًا بأزمات الحاضر، فليس من المفهوم إصرار العديد من الصحفيين والنقاد وكتّاب النصوص الترويجية في المهرجانات حصره في هذه المنطقة. أرى أن هناك استسهالًا في التعامل مع مصطلحات مثل الديستوبيا والسايبربنك والأبوكاليبس والمستقبلية. من ناحية اخرى قد تعطي الجماليات الظلامية في عروضه انطباعًا على ذلك.

فرض الديستوبيا نراه مؤخرًا في تغطية موسيقى سليكباك التي تعتمد على الضجيج وتفريغ شحنة من الغضب أو مشاعر أخرى دون الإشارة إلى أي خيال علمي أو قضايا كونية. لكن هناك إصرار على استنتاجها كديستوبيا، كما نرى في وصف ألبوم ملت في مجلة بلاي “مستقبلية أفريقية ديستوبية” أو وصف ذَ كوايتس لنفس الألبوم “موسيقى كلَب ديستوبية”. جاء وصف موقع بومكات للألبوم التعاوني بين سليكباك وشيبنويز بـ “الضوضاء الديستوبي”. هناك نوع من الاستسهال في الاستماع إلى الضجيج وفك رموزه وربطه بشكل أعمى بالديستوبيا وبالدمار حتى عند احتوائه سرديات أو مفاهيم أخرى مرتبطة بمشاعر أو تجارب شخصية. الأمر الذي نراه في مراجعات ألبوم ذَ بودي وديس فيج الجديد، فبرغم خلو وصف الألبوم تمامًا من الديستوبيا والأبوكاليبس وتطرق كلماته إلى جوانب شخصية لـ ديس فيج، يظل هناك إصرار من قبل الصحافة في اقحام تلك المصطلحات المستهلكة عليه. من ناحية أخرى، تأتي تسجيلات نييجي نييجي وهاكونا كولالا كمثال على إقحام مصطلحات مثل المستقبلية والسايبربنك وسايبر-شيء في وصف إصداراتهم، فلا أتصوّر أن فناني موسيقى السينجيلي أو الجوم ملهمين مثلًا بهذه السرديات.

ينقلنا ذلك إلى ربط كل ما هو مميز وغير مألوف وجديد أو غريب أو نادر بالمستقبلية، ولا مانع من إضافة بعضًا من الديستوبيا وعناصر من السايبربنك لإضافة مزيد من الإثارة. ألاحظ ذلك كثيرًا عند الكتّاب الغربيين. لقد باتت فكرة المستقبل مبتذلة، خاصةً عندما يتعلق الأمر بفهم وفك رموز الثقافات غير الغربية المختلفة. وفقا للعقلية الغربية، فإن الشيء “الجديد” أو غير المسموع أو غير المألوف لمعرفتهم الضئيلة لتاريخنا وإرثنا الموسيقي في آسيا أو أفريقيا أو المنطقة العربية يُنظر إليه ويُفرض عليه أنه مستقبلي. هذا يدل على عدم بذل جهد للسؤال والتعلم والفهم وتتبع الأصول والعوامل المختلفة الكامنة وراء هذه الموسيقى والفن، والفشل في إدراكها على أنها موسيقى تنتمي إلى منطقة جغرافية معينة، حيث يستخدم الفنانون تأثيراتهم الثقافية والتكنولوجيا.

عندما يتعلق الأمر بالموسيقى الإلكترونية غير الغربية، فإن استخدام مصطلح “المستقبل” يختذل الفنانين إلى كائنات فضائية تقوم بأشياء غريبة، أو ببساطة تعزز فكرة “الآخر”. بالإضافة إلى ذلك، هذا “المستقبل” مفروض على الفنانين الذين لا تعتمد مفاهيمهم وموسيقاهم على المستقبل. يصبح المستقبل بذلك إكزوتيكية ووجهًا آخر للاستشراق. يتهكم الروائي والناقد ترافيس جيبيسن على هذه الحالة في مراجعته لألبوم أوشياك الأخير في آرت فورم “سرعان ما أصبح التهجين [في الموسيقى] الوضع السائد لأولئك الذين يعرفون (بما في ذلك الصحافة الموسيقية الغربية المسعورة لحل لغز ما بنظرة إكزوتيكية باعتباره مستقبلًا محيرًا مستوحى من السايبربنك من الشرق التكنولوجي البائس)”. الغريب أن العديد من الجمهور والفنانين العرب مثلًا يستطيعون التمييز بين تراك جانغل أو دبستب جيد وآخر رديء، في حين تصبح الأمور مجرد طلاسم يصعب فكّها لدى قيّم أو مستمع أو صحفي غربي، ليكتفوا بوصفها بالمستقبليّة أو من بعد آخر. ما نعرفه عن موسيقات ومشاهد الشمال العالمي أو الغرب أكثر بكثير مما يعرفونه عنّا.

Arca: kick iiiii غلاف ألبوم

مرة أخرى، نرصد سرديات السايبربنك والديستوبيا وكثير من الثيمات المظلمة في العديد من إصدارات تسجيلات إينفينت ماشين، حيث يلخص وصف ألبومهم التجميعي بمناسبة مرور عشر سنوات على إنشائها “اتخذ إنتاج إينفينت ماشين منعطفًا بسيطًا في مجال السايبربانك، حيث ابتعد عن حلبة الرقص الخالصة نحو المزيد من الأعمال المفاهيمية التي تتعامل مع ثقافتنا فائقة السرعة أو الموسيقى التصويرية المتخيلة لعوالم خارج الكوكب.” أمّا على صعيد الديستوبيا الإستعراضية المحاورة للبوب، تستمد أركا إلهامها بشكل كبير من بيان السايبورج لدونا هاراواي، تعكس أعمالها الأولى بفيديوهاتها وبصرياتها ذلك، حيث نرى هجين إنساني آلاتي متقدم تكنولوجيًا بغرض نقد ماضي ذكوري واستعماري وأبوي. لكن بدايةً من سلسلة ألبومات كيك بأجزائها الأربعة نرى تحولًا واضحًا تطغى عليه الديستوبيا في عالم متقدم تكنولوجيًا وغرائبي مظلم يمزج بين البدائية والما بعد إنسانية، كما نرى في فيديو برادا/راكاتا وكايو و@@@@@ من قبلهم. كما كتب في وصف ألبوم كيك الجزء الخامس “أناشيد لأندية الكوير المظلمة في الطابق السفلي في مستقبلنا السايبربنك القريب”.

أرى أن الاستعانة بالمجازات والمصادر الديستوبية من الواجب أن تكون بحذر حيث كما ذكرت سابقًا واقتبست من كود9 من السهل استنتاج جماليات مظلمة أو عملًا ما كديستوبيا، سواء قصد الفنان أم لا. على سبيل المثال فإن ألبوم باراديسو للمنتج تشينو أموبي استنتج خطأً كديستوبيا من قبل إيميل فرانكل وسايمون راينولدز. أجواء الألبوم مؤرقة والأصوات تجعل من السهل استحضار هذه الصورة، إضافةً إلى عناصر السايبربنك في فيديو الألبوم، حيث أن تطور تكنولوجيا بيئة ألعاب الفيديو جيم ثلاثية الأبعاد لم تسفر عن أي جديد. فقط نشاهد صورة عالية الجودة بصورة استعادية تعكس حنين لجماليات الديستوبيا الثمانيناتية. لكن يري أموبي أن فكرة باراديسو تحمل أملًا ورمزًا للوحدة والتشاركية، فجنة أموبي (باراديسو) بمثابة أرضًا أو مساحة جديدة لخلاص جماعته وهنا نكتشف ملامح شبيهة بمفاهيم دريكسيا وصن رع وخيالًا مستقبليًا أفريقيًا ما بعد إستعماري. يعترض أموبي على ربط مشروعه بالديستوبيا “فقط لأن موسيقتي وفني تبدو مظلمة لا يعني أنها ديستوبية. وإذا كانت مظلمة فأرى قدرًا كبيرًا من الأمل والنفع الجديد في الظلام”.

يبدو أن توظيف جماليات الظلام موسيقيًا يأتي هنا لغرض مختلف، كنوع من المقاومة مثل لدى المنتجة البوليفية أليسيا كرامبتون. تعلّق كرامبتون على جماليتها الديستوبية التي تتركها للاستناج والتجربة الشخصية “ليس من المفاجئ أن تجد الديستوبيا (أو تسمعها) في نفس المكان الذي كنت تبحث فيه (أو تصوغ) نقيضه المزعوم: فهم يتعايشون مع بعضهم البعض، ويبقعون ويلطخون بعضهم البعض في شيء يشبه التراكب الكمي. ما يبدو كالجحيم بالنسبة لأحد المراقبين (أو المستمعين) قد يبدو كالجنة بالنسبة لآخر… ما يسميه الكثيرون نهاية الزمان الحالي هو بالنسبة لنا جمر محتمل لنار جديدة، جاهزة لاستهلاك عالم المستوطنين أو بشكل أكثر دقة، عكس اتجاهه” تأتي إشارات الديستوبيا في أعمال كرامبتون كواقع استعماري من المحتمل تغييره، هذه رؤية تختلف عن الاستهلاك الأعمى وفيتيشية الديستوبيا من قبل الكثيرين.

لكن من ناحية أخرى يرى سافي فونج مؤسس تسجيلات تشاينابوت الديستوبيا بشكل مختلف من حيث الاستخدام المكثف للبصريات الآسيوية في السايبر بانك في أفلام هوليوود وكذلك في ألعاب الفيديو والأدب والثقافة الشعبية. يقول فونج في مقابلة له مع رزيدنت أدفايزور “مع خلق هذه الجماليات الديستوبية، فإنك لا تتناول حقًا أي شيء يتعلق بآسيا الحقيقية. هناك ديستوبيا حقيقية، أو على الأقل حالات قمعية حقيقية في آسيا، يمكن معالجتها بدلاً من هذه الديستوبيا الخيالية” تعكس هذه الرؤية التي أتفق معها بشدّة الاشتباك مع الواقع في الحاضر. العديد من البلدان في آسيا وأفريقيا والمنطقة العربية تعيش أحداث ديستوبية حقيقية ومع ذلك لا نرى أي صور من أفلام السايبربنك أو الهلاك أو هذه الرغبة في الهروب إلى المستقبل أو معالم ديستوبية. أعتقد إننا في المنطقة العربية مثلًا أكثر انشغالًا بالواقع وتناقداته. لسنا بحاجة للهروب للمستقبل لأن جذورنا المتأصّلة وإرثنا بالإضافة إلى واقعنا المتناقد يشدنا إلى الحاضر ويجعلنا أكثر واقعية. لا نملك رفاهية الخيال الديستوبي وقد شهدنا بالفعل كوارث أكثر شدة وكثافة ومازلنا نشهد قمعًا واحتلالًا وأوضاع اقتصادية بائسة في بلدان مردومة بالديون وبلدان خاضت وتخوض حروب أهلية. لكن أرى لدى الغرب أن معالجة الديستوبيا من باب الإنذار من كارثة وشيكة قد تحوّلت إلى درجة الهوس بتجميلها (aestheticization)، بعد أن صارت معادلة هوليوودية مكرّرة ومضمونة لجميع الأطراف العاملين في المشهد الإلكتروني المغامر. صار صانع ومستهلك هذه الديستوبيا يتغذى ويجمّل الكوارث بدلًا من معالجتها، كأن الديستوبيا هنا نابعة من رفاهية أو مللٍ ما منسلخين من الحاضر.

بين الديستوبيا الواقعية والديستوبيا الخيالية

ارتبط هذا المشهد بشكل كبير بالحقل الأكاديمي، فالعديد من فنانيه ذي خلفية أكاديمية تسعى إلى طرح قضايا كبرى لتغيير العالم أو نقد الوضع الراهن بالإضافة من تواجد صبغة أكاديمية في مهرجانته في أوروبا يمكن تبينها في الندوات والمحاضرات وحلقات النقاش. غالباً ما رأينا على مدار سنوات مصطلحات مثل الديستوبيا والمستقبل والذكاء الاصطناعي بالإضافة إلى الرقابة الرقمية والتغيّر المناخي والتعددية / التنوع. حتى هذه القضايا يجري تناولها من على الهامش دون توجيه نقد عنيف لبنية المنظومة التي تقف ورائها. طالما قررت تلك المهرجانات تسييس نشاطها، فلماذا لا تستمر حتى النهاية؟ على سبيل المثال، لا توجَّه أي انتقادات للحكومات في ما يخص قضية التغير المناخي، وعلينا الجزم أن هناك تناقد جذري بين الحديث الليبرالي عن العدالة المناخية دون التعرّض لإبادة الشعب الفلسطيني. كم من مهرجان أعلن تضامنه بشكل واضح مع ضحايا الإبادة؟ الحديث عن الرقابة الرقمية الذي كان العمل الشاغل في المجالات أكاديمية الرقميّة ومن ثم، في العديد من المهرجانات من الواجب الرجوع إليه الآن وإعادة قراءته في ظل قمع العرب ومناصري القضية الفلسطينية ومناهضي الإبادة في المظاهرات والعودة إلى نظام رقابي مشدد على وسائل التواصل الاجتماعي وفي الشارع أيضًا.

هناك بالطبع حاجة ملحّة لإعادة النظر في الذكاء الاصطناعي من ناحية تسليحه من قبل الأنظمة الرأسمالية ومن قبل الرؤية اليوتوبية الساذجة له المتماهية فقط باستخراج الجماليات منه، في حين نشهد الآن استهداف أحياء سكنية بالكامل بناءً على تنبئات وقاعدة بيانات لدى الذكاء الاصطناعي للعدو الصهيوني. الحديث هنا عن ديستوبيا حقيقية يعيشها شعب بأكمله على مدار أكثر من عام. من الواجب معالجة هذه المواضيع التي طالما انشغل بها الغرب في خيالهم، الآن في الحاضر، بينما ما زلنا نشهد جماعيا إبادة حيّة وإلى حدٍّ كبير مأتمتة. إذا كان في بعض الأحيان الدافع وراء الحديث عن الديستوبيا والإشارة إليها في الأعمال الموسيقية المفاهيمية هو التحذير من كارثة ما وإبراز ما سيحل في المستقبل إذا استمر وضع فاسد على ما هو عليه، فإننا بالفعل بصدد الديستوبيا الأكثر واقعية الآن وها نحن نتابعها منذ فترة طويلة بشكل يومي. فليس هناك شيئًا أكثر إلحاحًا للحديث عنه والدعوة للتحرّك لرفضه جماعيًا أكثر من الإبادة الحالية في فلسطين. في ظل هذا النفي للحاضر، إنّ الحديث عن ديستوبيا أو مستقبل ما، ليس أكثر من هوس وفيتيشية عبثية وخيال بغرض الاستمناء الجمالي والهروب من المساءلة الجماعيّة.

قد يكون تبنّي القضايا المشار إليها وسيلة “آمنة” اليوم، يصب بدوره في مصلحة الحكومات التي تنفي عنف الحاضر. حيث أن الحكومات تحتوي الحديث عن التعددية والبيئة والرقابة من خلال العديد من هذه المهرجانات، وتستخدمه للحفاظ على ماء الوجه، في حين تشارك بشكل فجّ في الإبادة. من المؤسف أنه بالرغم من حجز المهرجانات الأوروبية للعديد من المنتجين والدي. جاي.ز العرب، والرغبة في عرض موسيقتهم، وبالرغم من الخطاب التحرري والإصرار على البعد السياسي للموسيقى، لم نر أية ندوة أو حلقة نقاش أو محاضرة متعلّقة بالإبادة في غزة ضمن تقييم البرامج الحوارية للمهرجانات الأوروبية. باستثناء قلّة قليلة من المساحات الفنية والمهرجانات، جاءت ردود الفعل مخيّبة للآمال عند الاختبار الحقيقي للديستوبيا المتمثلة في الإبادة. بالتالي فالعديد من تلك المهرجانات التي تصف نفسها بالمغامرة وذات وعي سياسي هي بالفعل جبانة سياسيًا. 6 من المهم أن نذكر رصدنا لموجات تضامنية واسعة في دول الشمال الأوروبي أكثر من الغرب. ×  توغّل خطاب إنهاء الاستعمار بشكل طفيف للغاية في بعض المؤسسات لكن دون التطرق للأزمات السياسية الحالية بشكل جاد، وكأنها محاولة للغرب الليبرالي لحفظ ماء الوجه، وبالطبع تناسى تمامًا ذلك الخطاب بعد شعوره بتهديد بعد السابع من أكتوبر.

كثيرًا من العروض والجماليات الديستوبية تأتي بغرض الصدمة، لكننا صُدمنا صدمات حقيقية وشاهدنا وتابعنا أزمات وكوارث بما فيه الكفاية على أرض الواقع، بالأخص على مدار أكثر من عام على الإبادة، فبات من الصعب أن نصدم الآن من خلال استعراضٍ كهذا. فما كان صادمًا على المستوى الفني في الماضي، أصبح عدميًا مصطنعًا ومخجلًا في الوقت الحالي. إضافةً إلى كونه معادلة آمنة استهلكت كثيرًا، يعكس الهوس الديستوبي حس كبير بالهروب، كما يظهر ذلك الحس نفسه في استهلاك معادلة المستقبل. إن العلاقة بين ما هو جديد والمستقبل قد استنفدت؛ هذه العلاقة لم تعد جديدة بعد الآن، وأعتقد أنه يجب أن يكون هناك عناصر أخرى غير مقصورة على المستقبل للإشارة إلى ما هو جديد ومغامر. حتى الأعمال التي تتكهّن بالمستقبل فهي مجرّد فانتازيا، فالمستقبل غير مضمون ومتقلّب، وحدث عارض كفيروس كوفيد أو حرب ما أو أي كارثة أخرى كفيل بتدمير كل تكهّناتنا عن المستقبل. كما أنه ليس هناك ما يمنع التجديد والمغامرة في الحاضر، فمن الممكن إعادة امتلاك الحاضر والصراع عليه والمناورة خلاله مستغلّين ما تتيحه التكنولوجيا والإنتاج المتراكم على مرار السنين بدلًا من الهروب بهم إلى المستقبل.

بالنسبة لي، الهروب إلى المستقبل يشبه الهروب إلى الماضي، كلاهما غارق في دائرة من التكرار وربما، خوف من التحوّل. إن كان هناك حسًّا تشاركيًا في المشهد الإلكتروني المغامر، فعلى سبيل التغيير والتجربة من الممكن محاولة استثماره في حاضر يخلو من الديستوبيا الخيالية والهوس بالمستقبل، بل والسعي إلى إيجاد حلول وفتح نقاش جدّي حول القضايا الملحّة في الحاضر. من الواجب أيضًا التركيز وإعادة النظر في كيفيّة التعامل مع المساحات الفنيّة والنوادي الليليّة التي رسّخ العديد منها مبدأ الهروب والانغماس في الملذات والعدمية والفردانية الليبرالية. قد يكون ذلك بدافع البحث عن بعض من الأمل بدلًا من الهروب، أو على الأقل بدافع الابتعاد عن الكليشيهات والمفاهيم المستهلكة التي يشوبها التكرار والتي تنفي ظلام الحاضر بخطورة شديدة.

❧❧❧

Webscore

Generator

مولد كهربائي

×